استفتاء حافة الهاوية

سؤال يحيط بأمر دستور الثورة، هل هو لعنة تطارد حركة الشعب وتحاول أن تحد منها وتنحرف بها عن مسارها؟ السؤال يفرضه التعامل مع الدستور وترتيبات ما قبله وما بعده، والانتقال به إلى إله السلطات المتعاقبة بعد الثورة الذي حكم علاقتها بالشعب وأهدافه، وتمثل "بالصندوق"، ودفع الشعب إلى الاستفتاء القهري والذي مآله دوما الموافقة بنعم، ليصبح سيفا مسلطا على الرقاب، ونطلق على ما يليه "الشرعية" حتى وإن نتجت عن استبداد من نوع آخر.
الاستبداد ليس فقط الاستئثار بالسلطة وتجاهل إرادة الشعب وحاجاته واستبدال العلاقة السياسية بالأمن لإخضاع الشعب، ولكن الاستبداد أيضاً يتجلى في سياسة حافة الهاوية التي يجري التعامل بها مع الإرادة الشعبية واتخاذ مسارات تحرق مراحل واجبة من الناحية الفنية لإعداد دستور توافقي كما يتردد كلما جرى الحديث عن الدستور. ويتجلى أيضاً عندما يتلو حوار المجتمع إعداد مسودة للدستور، وهو حوار ليس منشأ للدستور، ولكنه حملة تلقين ودعاية لدستور لم يستكشف واضعوه قبل صياغة مسودته ماهية الإرادة الشعبية، ولم تأخذ بحاجة المجتمع إلى خيارات للتنمية الاقتصادية عبر حوار ناضج يحددها ليتضمنها الدستور والقياس على ذلك كثير، ومجمله أن الادعاء بالحوار المجتمعي لم يتجاوز جلسات تفريغ الطاقة في جلسات استماع وهي عفوية والأحاديث فيها كما حوار الطرشان وأيضا بين غير أهله والمؤهلين له.
ويصيب الاستفتاء نيران صديقة تعبوية بالقول إن "نعم" للدستور هي في مواجهة الإخوان ولإزاحتهم، فما جبنت الحكومة الانتقالية عن فعله تدعي أنه هدف الاستفتاء، ليصبح استفتاء سياسيا وليس لإقرار الدستور.
كتب الأستاذ عبدالغفار شكر في الأهرام (14/12) تحت عنوان كيف نحدد الموقف من الدستور؟
"يتحدد الموقف الصحيح من مشروع الدستور بالإجابة على الأسئلة الآتية: هل يخدم مشروع الدستور عملية التحول الديمقراطي من النظام السلطوي الذي كان قائما قبل25 يناير إلى النظام الديمقراطي الذي نادت به الثورة؟ وهل يعتبر هذا المشروع خطوة على طريق هذا التحول الديمقراطي أم أنه يمثل عقبه أمامه؟ وهل كان بالإمكان في ظل علاقات القوى الحالية الوصول إلى صياغة أفضل للدستور وأكثر تقدما؟"
وترجع بي كلمة "التحول الديمقراطي" إلى عام 1971 عندما كان هذا أيضاً شعار اليسار لتبرير دعمه للسادات فيما أطلق عليه ثورة التصحيح، وبلغ الأمر يومها بالأستاذ لطفي الخولي أن يكتب عن الساداتية في مواجهة مع ما أطلق عليه الناصرية، وليدفع الجميع الثمن في متوالية إحياء التنظيمات الدينية والدفع بها لمواجهة اليسار ناصريا كان أو ماركسيا، وليدخل الجميع السجن عام 1977 في أعقاب انتفاضة الخبز التي اسماها السادات يومها انتفاضة الحرامية، نكرر المواقف وكأننا لا نتعلم من التجارب وبعد ثورة خرجت بموجات شعبية ثلاث وأزاحت رئيسين ولم تسقط النظامين بعد.
والخطورة فيما قاله شكر هو السؤال الثالث: وهل كان بالإمكان في ظل علاقات القوى الحالية الوصول إلى صياغة أفضل للدستور وأكثر تقدما؟ وهو سؤال تقريري في مضمونه أن الثورة لم تغير موازين القوى داخل المجتمع، أي أنها لم تحقق على طريق أهدافها تغييرا يؤهلها لوضع دستورها الذي يعبر عن توافق المجتمع والإرادة الشعبية.
هذا السؤال هو استدعاء للجماهير لتخرج رابعا لتعيد التوازن في القوى لصالح الثورة، فالدستور الجديد بالخمسين الذين وضعوه انقلب على نسبة 50% التي أقرتها ثورة يوليو ومرحلة التحول الاشتراكي للعمال والفلاحين، فهل معنى هذا أن رأسمالية الانفتاح الساداتي وتزاوج الثروة والسلطة المباركي كانا في ميزان القوى أكثر قدرة على التأثير؟ وإن الأحزاب الكرتونية التي جرى تمثيلها باللجنة وادعاءات النخبة المتبلدة والعاجزة حول عدم قدرة العمال والفلاحين على ممارسة التشريع، ولم يدر بخلد أي منهم أن خريجي الجامعات يحتاجون تدريبا ليمكن إلحاقهم بسوق العمل كموارد بشرية صالحة، ثم يسوقون حجة أن هذه النسبة جرى استخدامها لينفذ غير العمال والفلاحين، وكأن وضع قانون يحول دون سرقة التمثيل سوف يرهق الأمة، فتضحي بهذه النسبة.
الثورة وهي فعل اجتماعي بالأساس يتميز بأمرين، الأول اختصار الزمن، فهي تستمد من قوتها الشعبية فعل التغيير والانفلات على قوانين سابقة عليها تحول أي عمل إصلاحي بطيء إلى العدم، والثورة تفعل هذا بتغيير ميزان القوى في المجتمع، فإذا بقي ميزان القوى لغير صالح الثورة، تصبح الثورة غير مكتملة الإنجاز، تضيع أهدافها وتنقلب إلى فورة انطفأت، وهو ما يستدعي للذهن، أنه من بعد يناير 2011 فإن النظام السابق على الثورة الشعبية قائم يمسك بمفاتيح المجتمع والسلطة، لم يتغير ولكنه يتجمل.
السلطة المؤقتة القائمة رئاسة ومستشاريها ووزارة الانتقال، ولجنة الخمسين، والأحزاب، جميعهم قادوا انقلابا على الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي الذي كفله دستور 1971، وهو ما يستدعي الصراع الاجتماعي موازيا للفوضى الإخوانية والإرهاب الجهادي، بالضبط كما فعل قانون التظاهر، اصطدم بكل شباب الثورة، وأصبح التعامل مع فوضى الإخوان وأيضا رفض قانون حجب التظاهر.
وأضافت الوزارة الانتقالية ارتفاعا متكررا في الأسعار، وتعاملت مع مشاكل الغلاء بأسلوب التسكين، ورجعت السوق السوداء للدولار.
وانحرف اتحاد العمال عن الدفاع عن مصالح العمال وانشغل بمصالحه الخاصة، وتاه الفلاحون بين وزارة الزراعة التي يقودها أحد رجالات يوسف والي والتطبيع مع إسرائيل وبين تجمد التعاونيات واتحادات الفلاحين ونقابة مستجدة مازالت تتصارع ووزير العمل على ما تم بها من انتخابات.
أن يأتي وزير الدفاع رئيسا للجمهورية ليس وحده حلا لكل هذه المعضلات، والسؤال الأساسي الذي سيواجهه إلى من سينحاز، إلى دولة مبارك وميزان القوى الحاكم الآن، أم أنه سينحاز إلى الثورة والشعب؟ أما باقي الأسماء المطروحة لمنصب الرئيس أو المحتمل ترشحها، فلا علاقة لها بإدارة الدولة ولا علاقة لها بالثورة ومهام التغيير والتنمية، ومازالت مصر حبلى بأسباب الانفجار الشعبي رغم الحرب الضروس في مواجهة العنف والفوضى.
( الشرق القطرية 2013-12-18 )