«ليالي سانت بطرسبورغ» لدي ميستر: الفكر ضد التنوير وثورته

تم نشره الخميس 19 كانون الأوّل / ديسمبر 2013 01:10 صباحاً
«ليالي سانت بطرسبورغ» لدي ميستر: الفكر ضد التنوير وثورته
إبراهيم العريس

ذات يوم كتب المفكر الفرنسي جوزيف دي ميستر - وتلفظ اليوم «دي ميتر» - قائلاً: «انه لمن الضرورة بمكان خنق فكر القرن الثامن عشر كله». ويقيناً ان هذا الفيلسوف المؤيد للملكية والذي عرف بأفكاره الرجعية، وأيضاً بعمله ضد الثورة الفرنسية، كان يعني بالفكر الذي يجب خنقه كل ذلك الفكر الثوري والاصلاحي التنويري الذي هيمن على القرن الثامن عشر كله، وكان اندلاع الثورة الفرنسية من نتائجه المباشرة. وفي معرض تفسيره لقوله هذا واستكماله، أوضح دي ميستر الذي كان من أبرز وأجرأ الذين وقفوا يعارضون فلسفة «الأنوار»، ان البديل عن ذلك كله انما هو الايمان بوجود «نظام فوق طبيعي» هو نظام «حكومة العناية الالهية الكلية»، مستطرداً ان «الثورة، على سبيل المثال، مدمرة ومضرة وشيطانية، في مظاهرها المباشرة «لذلك» يتعين محاربتها»... غير ان هذا لم يدفع دي ميستر بعيداً من التأكيد في مجال آخر ان «الثورة تخضع، مع ذلك، وفي قرارة الأمر، الى خطة رسمتها العناية الالهية، والدليل على ذلك انه يتعذر تفسيرها تفسيراً بشرياً، اذ ان الرجال الذين بدوا وكأنهم يوجهونها كانوا في الواقع يوجَّهون من ناحيتهم، من قبل قائد اوركسترا سري وخفي هو العناية الالهية. ولئن كان هذا يظهر لنا في شكل من الأشكال بأن الإله هو الذي يدمّر كل شيء، فإنه في الواقع هو الذي يسيّر ويبني على المدى البعيد. ولئن كان الله قد اوقع بفرنسا هذا العقاب الالزامي فإنه لم يفعل ذلك إلا لكي يذكرها بضرورة العودة الى الرسالة المسيحية». ولكن ما هي الاخطاء التي وقعت فيها فرنسا لكي تستحق هذا الدمار، وبالتالي هذا التذكير؟ يتساءل دي ميستر قبل ان يجيب: «الخفة وانحلال الاخلاق في اواخر العهد الملكي القديم، بكل تأكيد، ولكن ذنبها يكمن ايضاً في سعيها الى الحصول على دستور مكتوب، الامر الذي يفترض ان الدستور يمكن ان يصلح في كل الازمنة وللناس كافة بغض النظر عن وسطهم وعن ماضيهم الجماعي». هل يذكرنا هذا الكلام الذي لطالما هوجم في فرنسا وغيرها واعتبر رجعياً لا علاقة له بالعصر بشيء؟ من يتابع بعض ما يجري من حول ما يسمى اليوم بالربيع العربي يجد نفسه عبر هذا الكلام في خضم النقاشات الحادة القائمة اليوم من حول الدساتير الوضعية التي يُشتغل عليها في عدد من بلدان هذا الربيع بالتأكيد، غير ان هذه حكاية أخرى بالطبع. فالمهم في الأمر هنا هو ان دي ميستر قال هذا الكلام بوصفه، وبحسب الباحث اندريه كانينفتس «واحداً من اولئك المفكرين الذين عاشوا اهوال الثورة لا حماساتها، فتبدت لهم، حال انطفائها، سلبية هدامة مرعبة، من صنع بشرية فقدت اتصالها بالله».

> أفكار دي ميستر هذه، اذا كان طوال النصف الثاني من حياته قد عبّر عنها في الكثير من الكتب، فإنه عاد ولخصها في شكل شديد الوضوح - لكنه لا يخلو من حيرة ومن تساؤلات - في ذلك الكتاب الغني والمفاجئ الذي انجزه خلال سنوات حياته الاخيرة لكنه لم يُنشر إلا بعد موته بشهور، وعنوانه «ليالي سانت بطرسبورغ»، وهو عبارة عن تسجيل لحوارات (وهمية؟) تدور في الكتاب خلال تلك الليالي البيض في مدينة الشمال الروسي، بين دي ميستر نفسه، الذي كان في ذلك الحين يشغل منصب سفير للملك الايطالي عمانؤيل الاول، ملك سردينيا، لدى البلاط القيصري الروسي، وبين سناتور ينتمي الى هذا البلاط، وفارس فرنسي... وهؤلاء الثلاثة، كما يصفهم لنا الكتاب، يجتمعون كل عشية في منزل ريفي بالقرب من العاصمة الروسية آنذاك، على ضفة نهر النيفا، لكي يتناقشوا حول الكثير من الامور السياسية والفكرية والدينية. ومن الطبيعي ان دي ميستر في كتابه هذا يعطي الارجحية، وبالتالي الحق، لنفسه خلال السجالات ولا سيما حين يؤكد ان «حياة الشعوب انما تستند اساساً الى سلطة الملك وعنايته، ومن ثم الى سلطة الكنيسة» وذلك بالتعارض التام مع كل ما كانت أتت به افكار «عصر الانوار». وهذا ما جعل تاريخ الفلسفة ينظر الى دي ميستر على انه «النقيض الكلي لفولتير». ومن هنا لم يكن غريباً لدي ميستر ان يصرخ في كتابه هذا قائلاً: «رباه... كم كلفت العلوم الطبيعية الانسان!» ففي رأي دي ميستر ان هذه العلوم كلفته «نفي كل ما هو خارق للطبيعة، ومعه نفي كل الحياة الدينية التي ما هي الا تواصل الانسان مع الدائرة العليا، فوق الانسانية». ويفسر مؤرخ الفلسفة اميل برهييه في كتابه «تاريخ الفلسفة: القرن التاسع عشر» الذي نقله جورج طرابيشي الى العربية في اجزاء عدة، إن دي ميستر يرى «ان مبتدعي فكر القرن الثامن عشر، الذي تسبب في اذى عظيم، انما هما بيكون ولوك»، لذلك يوجه اليهما، في «ليالي سانت بطرسبورغ» انتقاداته، قبل ان يوجهها الى فولتير وديدرو وهو «رداً على نزعتهما التجريبية يعود الى الاشادة بالمذهب الفطري الديكارتي». وفي هذا الاطار يرى دي ميستر (ودائماً هنا بحسب تفسير برهييه) إن «كل موجود فاعل يمارس فعله في الدائرة المرسومة له من دون ان يمكنه ابداً الخروج منها» والنتيجة الضرورية التي تترتب على مثل هذه الحقيقة هي المذهب الفطري بشرط الخلط بين فطرة الافكار وفطرة الغريزة، ذلك ان دعوى ثبات الانواع ترتبط بالغريزة التي هي، بدورها، ثابتة. فإذا كان مفروضاً بالنوع الانساني انه يكون له هو الآخر، «رتبة إضافية في تصنيف من الكائنات فلا بد من ان يكون العقل، وهو خاصيته المميزة، موسوماً بضرب من الغريزة في الافكار الفطرية». وعلى هذا الاساس يخلص دي ميستر، في الصفحات الاخيرة من «ليالي سانت بطرسبورغ» الى ان «ليس ثمة علل في المادة، واتقياء الناس هم وحدهم الذين يستطيعون ويريدون الخروج من هذه المادة». وبالتالي، يرى دي ميستر ان الصلاة قد لا تقل فاعليتها ضد الصاعقة عن واقية الصواعق، وبفضل تراكب العلل الثانية مع الفعل الاعلى، لا يكون حقل الممكن محدوداً باعتبار العلل الطبيعية، وذلك باب يشرع على الخيال بجميع ضروبه: الحلم التنبئوي، فعل الاعداء الغامض، الخ». ويرى برهييه هنا ان «نوعاً من اللاارادية مشتقاً عن نيوتن، هو الذي جعل رد فعل دي ميستر العنيف ضد الفلاسفة ممكناً انطلاقاً من مبدأ يقول ان «عدالة الله لا علاقة لها بعدالتنا، وعنايته لا صلة لها بالحصافة البشرية. إن عدالة الانسان مبدأها مسؤولية المذنب، اما عدالة الله، فعلى العكس من هذا، مبدؤها قابيلة القاء تبعة اخطاء المذنب على البريء». والفعل النموذجي للعدالة الانسانية، في رأي دي ميستر هو «تضحية المسيح، اذ هنا نرى بريئاً يدفع الثمن عن البشرية المذنبة. وهذا الافتراء بالدم هو المبدأ الغامض لعادة الاضاحي، المشتركة بين ديانات كثيرة. لكنه هو ايضاً ما يفسر لنا الحروب التي لا ينقطع لها خيط والسر الحقيقي للثورة الفرنسية التي لقي منها كثرة من الضحايا الابرياء مصرعم لأخطاء ما هي بأخطائهم».

> ولد جوزيف دي ميستر العام 1753 في منطقة السافوا الفرنسية ومات العام 1821 في تورينو بايطاليا. وهو، كابن لوالد كان رئيساً لمجلس الشيوخ في بافيا، نشأ نشأة ارستقراطية علمية ودخل سلك القضاء وكان لا يزال في العشرين من عمره. وعلى رغم نشأته المسيحية الخالصة نراه خلال 15 سنة من حياته ينضم الى الماسونيين، ثم اكتشف «اشراقيي» ليون وانضم اليهم. وعندما قامت الثورة الفرنسية باركها دي ميستر وناصرها، لكنها سرعان ما خيبت أمله بعنفها، فهرب الى لوزان حين راح يكتب ضدها. وفي العام 1803 اوفد سفيراً لملك سردينيا الى روسيا. ثم عاد الى ايطاليا لينضم الى الفرنسيين من انصار عودة الملكية... وراحت كتبه تتالي، من «عن البابا» الى «رسالة حول الكنيسة الفاتيكيانية» الى «رسائل الى وجيه روسي حول محاكم التفتيش الاسبانية» الذي نشر بعد رحيله، مثل معظم كتبه.

( الحياة اللندنية 2013-12-19 )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات