العالم يجوع والضمير الانساني يتصحر

يحتفل العالم يوم 19 تشرين الاول من كل عام بيوم الغذاء العالمي ، والاحتفال هنا ليس بمعنى الفرح وانما بمعنى المأتم والعزاء ونعي البؤساء الذين يموتون جوعا او يكادون ، ويفترسهم وحوش الغابة التي تغولت في زيادة ارقام ثرواتها على حساب زيادة الارقام سنويا للجائعين الذي قالت منظمة الغذاء العالمية «فاو» أن عددهم حسب احصائيات رسمية يزيد على مليون انسان.
وتتسع رقعة البؤس في العالم الذي تأثر بالازمة الاقتصادية العالمية ويضرب الجوع كافة مناطق العالم بما في ذلك منطقتنا التي لم تكن تعرف بشراً يموتون من الجوع لكن الجوع يغزو منطقتنا حسب «الفاو» ولو كانوا نسبة ضئيلة ، والمفارقة ان الجوع يزحف على كل العالم مع تصحر الضمير الانساني وتحجره وهنالك على سبيل المثال 15 مليون جائع في امريكا واوروبا.
اكثر من مليار جائع يفترسهم الجوع حسب الاحصائيات الدولية ، وهنالك ملاحظة لمنظمة الغذاء العالمية هي ان الصين تمكنت من تقليص اعداد الجائعين ، بينما حدث العكس في الهند حيث هنالك تدهور مريع رغم تحسن الاقتصاد الهندي ، لكن ذلك يصبح مفهوماً عندما تعرف ان هنالك اربعة اثرياء هنود من بين اول عشرة اثرياء في العالم ، حيث تشهد الهند فرزاً طبقياً مريعاً ، وهي ليست استثناء فهنالك في كثير من بلدان العالم سلطة وسطوة «البزنس» في احتكار ثروات ومقدرات بلدان التحقت باندفاع بركب العولمة.
هنالك اليوم مليار جائع هم سدس البشرية لكن هنالك 3 مليارات انسان آخرين حول العالم يعانون من ظروف الحياة الصعبة اي ان ثلثي البشرية وهم الاربعة مليارات من ستة مليارات انسان يعيشون على الارض على حافة الفقر او تحت خط الفقر ، وهنالك اربعمائة شخص يملكون ثروات فردية ، هم الاكثر ثراء في العالم يملكون اكثر مما يملك 4 مليارات انسان هم الافقر في العالم ، أي ان العالم لم يشهد خللا مخيفا ومرعباً وكما يقول الشاعر انيس الحاج فانه على الاغنياء ان يخافوا من ارقام الجوع والفقر على مستقبل الانسان وصورة الارض اموات في هيئة احياء او احياء يعايشون موتهم أمامنا ونحن نتظاهر بالاقتناع ان الزمن كفيل بانقاذنا.
لكن الزمن هو نحن ، ونحن مساكين كذابون رمينا في هذا العالم وحدنا مثل قشة بين أشداق البحر الأعمى ، الهاجم بعضه على بعض ، فكيف يوفرنا؟ لقد اتخذنا من وحدتنا المأسوية ذريعة لا لدحرها بل لذبح بعضنا البعض ، وان أحسنا فليتجاهل الضعفاء والضحايا. لا بد من حفر هذا الوعي في الوجدان حفرا موجعا لعله يفتح ثغره في جدار البحر الأعمى. لعل شيئا يحدث لهذه الغابة السوداء يفتح لونها ولو قليلا ، ولكنه قليل دائما.
أشعيا النبي في القرن الثامن قبل الميلاد. يقول: «إنكم أنتم أتلفتم الكرم ، وسلب البائس ما زال في بيوتكم (...) ويل للذين تصلون بيتا ببيت ويقرنون حقلا بحقل ، حتى لا يبقي مكان لأحد ، فتسكنون وحدكم في وسط الارض ويل للذين يشترعون فرائض الاثم والذين يكتبون كتابة الظلم ، كي يردوا الضعفاء عن عدالة القضاء ويسلبوا الفقراء حقوقهم ، لتكون الارام غنيمة لهم وينهبوا اليتامى. فماذا تصنعون في يوم العقاب وفي الهلاك الاتي من بعيد؟ والى من تلجأون لنجدة ، وأين تتركون مجدكم وثروتكم؟».
ويقول على لسان الرب:
«ما فائدتي من كثرة ذبائحكم؟ شبعت من محرقات الكباش وشحم المسمنات ، وأصبح دم الثيران والحملان والتيوس لا يرضيني حين تأتوا لتحضروا أمامي. من الذي التمس هذه من أيديكم حتى تدوسوا دياري؟ لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة ، احراق البخور مزعج لي. رأس الشهر والسبت والدعوة الى المحفل لا أطيقها ، انها طقوس ارغامية وأثمة. لم أعد أحتمل. وحين ستبسطون أيديكم أمامي سأستر عيني عنكم ، وان اكثرتم الصلاة فلا اسمع. لأن أيديكم ملأى دماء».
«كيف صارت المدينة الأمينة بغيا؟ كانت عامرة بالحق يبيت يها البرّ ، وأما الان فالقتلة. فضّتكً صارت زغلا وخمركً مغشوشة بماء ، زعماؤك أوغاد وشركاء للسراقين. كل واحد منهم يحب الرشوة ويسعى وراء الهدايا. لا ينصفون اليتيم ودعوة الارملة لا تصل اليهم..».
كان أشعيا احد اكبر أنبياء اسرائيل الاربعة ، وأعظمهم رؤيا وأشعرهم وأنثرهم ، شاعر المشهد والغيب. لفحة إلهية مجبولة بغضب بشري. ثائر راءً بمستوى حاكم مثالي. قرع اليهود حتى لم يبق لهم سلاما الا أنذرهم بسقوطه. هم وأعداؤهم. شاعر «الويل الويل» ومع هذا انجيلي «العمانوئيل» اي «الله معنا» اكثر الواعدين بمجيء المسيح المخلص. هل هو أشعيا من أسقط رؤى أبصرها ، على المسيح الاتي ، أم هم الرسل اسقطوا كلام أشعيا على المسيح؟ الموبخ العنيف ، ذو الوعيد المرعب ، الصادق الشرس ، يأتينا كلامه بعد ألفين وثمانمائة سنة كواحد من غاضبي اسرائيلات اليوم وفينيقياته وأميركاه وأوروباه وسائر الاملاك ، بلا تجعيدة على حرف.
مليار جائع. جاء المسيح وأشعيا لا يزال يصرخ ، عمن تتكلم يا أشعيا؟ ألم يتعب لسانك؟ أيها السليط المنتقم ، ألا تكون اكثر واقعية وتساير الزمن؟ الفساد شريعة الغابة والقتلة سادتها. وأنت ونحن الفقراء ملح الكلام الفارغ لا ملح الارض.