معالجة السَّويّة الفكريّة

لن نستطيع أن نحارب موجة العنف التي تضرب في مجتمعنا بقوة وخاصة في الجامعات وفي أوساط الشباب من خلال الاقتصار على تغليظ العقوبات، أو عن طريق سن التشريعات، وأن كان لها دور فهو محدود وقاصر وغير شاف، لأن المسألة تتعلق بتدني السويّة الفكرية، والتخلف الثقافي، وانحطاط مستوى الاهتمامات، مما يؤدي إلى إتقان فن التحايل على التشريعات، والتخلص من العقوبات !!.
إذا تم الاتفاق بأن العنف هو عبارة عن ثمرة مجموعة كبيرة ومتداخلة من الأسباب والعوامل التي تسهم في التنشئة الاجتماعية من ناحية، وثمرة لمنظومة سياسات متعددة ادت إلى تفريغ الجيل من الفكر والثقافة وإبعادهم عن الهم الوطني، ودفعتهم إلى الاستغراق في أمور شكلية موغلة في التسطيح، وتتسم بالضحالة والقشورية، فهذا التشخيص يفيد بشكل قطعي؛ أن العلاج ينبغي أن يبتعد عن السطحية والشكليّة، وضرورة اتباع منهجية مختلفة ؛تقوم على أسس علمية صحيحة، من حيث الدراسة ،ومن حيث الفهم والتحليل، ومن حيث التصدي و المواجهة.
العلاج والمواجهة ينبغي أن تشرع بالبدء بانجاز دراسات موضوعية معمقة، وحوارات موسعة، ورؤية استراتيجية بعيدة المدى، ومن ثم الانطلاق عبر خطة مرسومة وخطوات متدرجة ومتأنية، تشترك فيها كل الجهات والمؤسسات المعنية على الصعيد الرسمي وعلى الصعيد المدني والشعبي، التي ينبغي أن ترتكز على هدف رفع المستوى الفكري وبناء منطومة القيم النبيلة التي تحسن من الأداء والسلوك، وتحسن مستوى التعامل مع البيئة المحيطة.
بناءً على هذه المقدمة، فإن المسألة تبدأ منذ السنوات الأولى الدراسية للطفل، بحيث ينبغي التركيز على إيجاد منهج أخلاقي يعظم لدى الطالب قيم النبل، ويعظم لديه معاني التعامل الراقي والمتحضر مع محيطه الانساني والمادي، ويجب أن يتطور هذا المنهج عبر السنوات المتتالية، وهذا المنهج يجب
أن يحظى بمؤلفين أكفاء من حيث المستوى العلمي والفكري والخلقي ،بالإضافة إلى مدرسين أكفاء كذلك، يجمعون بين العلم والفكر من جهة وبين السلوك السوي وحسن التعامل من جهة أخرى.
أما الناحية الأخرى فينبغي إيجاد الأطر الفكرية والثقافية والادبية والعلمية وايجاد المؤسسات التطوعية التي تستوعب الشرائح الواسعة من الشباب، بحيث تكون قادرة على إكساب الشباب الفكر النيّر، والثقافة السليمة بطريقة هادفة تلبي الرغبة الشبابية الطامحة نحو تحقيق الذات ، وقادرة على جذب الشرائح الواسعة ذات الاهتمامات المختلفة، مما يهيىء لهم البيئة المناسبة التي تمكنهم من اختيار المنهج السياسي، والانخراط في العمل الوطني الذي ينمي الشخصية الطلابية، ويعزز الانتماء بطرق عملية.
المسألة الحساسة تتعلق بالعمل الحزبي، وتأتي الحساسية من خلال الواقع السياسي المريض، الذي يسود في معظم أقطار العالم العربي، حيث أنه يتسم بالتناقض المريع بين الأطراف السياسية، نتيجة احتدام الصراع التاريخي على السلطة، القائم على منهجية الاستحواذ ، وإقصاء المخالف بالقوة، مما جعل البيئة السياسية مليئة بالشك والريبة، وشيطنة الخصم، وبروز مظاهر التكفير والتخوين والتطرف، مما أدى إلى عزوف جماهيري واسع عن الانخراط في الأحزاب.
لا يمكن أن يتم إصلاح الأمر بطريقة مجتزأة، فالموضوع برمته ثمرة لمنظومة متكاملة من القيم التي تتعلق بالمجال التربوي والتعليمي والمجال الفكري والثقافي، والمجال الوجداني والنفسي، والمجال السياسي، حيث يسهم مجتمعة بصياغة الإنسان صياغة متكاملة يجعله يتفاعل مع قضاياه الوطنية بروح المسؤولية العالية، المفعمة بالانتماء العميق للوطن، القائم على ركائز فكرية عميقة، وليس مجرد روح عصبويّة ساذجة، ومصالح فردية ضيقة تقزم القضايا الكبرى وتمسخها وتفرغها من مضمونها الحقيقي.
وتجعل الأفراد والمجموعات يدورون في أفلاك هابطة،تدور حول ذواتهم،و غير قادرة على الارتفاع إلى المستويات المطلوبة من علو الهمة وسمو الفكرة.
( الدستور 2014-01-26 )