«بوونابارتي وآل بوربون» لشاتوبريان: الكاتب يبرر التدخل الأجنبي

تم نشره الإثنين 21st تمّوز / يوليو 2014 01:16 صباحاً
«بوونابارتي وآل بوربون» لشاتوبريان: الكاتب يبرر التدخل الأجنبي
ابراهيم العريس

من بين كل الذين وضعوا، زمن نابوليون أو بعد رحيله بقليل، كتباً عن الإمبراطور الفرنسي الغازي، يظل شاتوبريان الأكثر إثارة للجدال، والأفضل لغة طبعاً. الأفضل لغة لأنه - كما نعرف - واحد من أكبر الأدباء الذين كتبوا عن نابوليون بأسلوب المؤرخ والمتهكم. والأكثر إثارة للجدال، لأن شاتوبريان كان في البداية مناصراً للإمبراطور بقوة، ثم صار مناوئاً له بقوة أكبر... أما الأسباب فشخصية كما هو معروف تاريخيّاً. ومن الطبيعي القول إن شخصية هذه الأسباب هي التي تفقد نصوص شاتوبريان عن نابوليون صدقيتها، سواء أكانت مع نابوليون أو ضده. والحكاية أن صاحب «مذكرات من وراء القبر» كان في مستهل وصول نابوليون إلى السلطة متحمساً له، وعمل إلى جواره، إلى درجة أن هذا الأخير اختاره من دون غيره من الناس ليشارك الكاردينال فوش في مبعوثيّة إلى روما كان نابوليون يعوّل عليها كثيراً. ولكن في روما حدث خلاف بين الكاتب والكاردينال، وقف فيه الإمبراطور إلى جانب الكاردينال ونقل الكاتب إلى عمل ثانوي الأهمية في سويسرا... ما أغضب شاتوبريان الذي راح منذ تلك اللحظة ينتظر الفرصة السانحة حتى يعلن غضبه ويستقيل من منصبه الجديد. ولاحت الفرصة حين أمر نابوليون بإعدام الدوق دي انغان، فاستقال شاتوبريان ونفى نفسه إلى إنكلترا، حيث راح منذ وصوله يصيغ ذلك الكتاب الذي سيعتبر منذ صدوره عام 1814، أي قبل وفاة نابوليون بعام، واحداً من أعنف الكتب التي تناولت تجربة الإمبراطور وحياته وممارساته. والحقيقة أن هذا الكتاب كان من شأنه أن يحقق نجاحاً أكبر بكثير، في ذلك الحين، لو أن الناس جميعاً لم يكونوا عارفين بالأسباب الحقيقية الكامنة وراء تأليفه، ولو أن الناس لم يلاحظوا كيف أن شاتوبريان انتظر بلوغ مغامرة نابوليون نهايتها قبل أن يصدر الكتاب... وهو أمر اعتبر غاية في الانتهازية المزدوجة. ولكن بعد ذلك بزمن طويل نُسيت كل تلك الدوافع ليبقى الكتاب شاهداً، من الداخل - وبالمعنى السلبي للكلمة هذه المرة - على النقاط الأسوأ في زمن نابوليون.
> عرف الكتاب بالعنوان الذي نشر به للمرة الأولى وهو «بوونابارتي وآل بوربون» (و»التحريف» في إملاء اسم الإمبراطور هنا ليس خطأ مطبعياً، بل أملته رغبة شاتوبريان في أن يشدد على الطابع الإيطالي لاسم نابوليون، حيث أنه في طول الكتاب وعرضه يأخذ عليه كونه «غريباً» تسلط على الحكم في فرنسا بفضل عوامل استثنائية. ومن هنا كان استخدامه الأصل الإيطالي للاسم بوونابارتي، بدلاً من التحريف الفرنسي بونابرت). أما الاسم الكامل والذي تحمله الصفحة الأولى الداخلية فهو «عن بوونابارتي، عن آل بوربون وعن ضرورة انضمامنا إلى أمرائنا الشرعيين من أجل سعادة فرنسا وسعادة أوروبا». والحقيقة أن هذا العنوان يقول هنا كل شيء، بحيث لا يحتاج إلى أي تفسير. فماذا في داخل صفحاته؟
> منذ البداية يبدو واضحاً أن شاتوبريان إنما أراد من كتابه أن يكون منشوراً سياسياً يحمل دعوة إلى استعادة آل بوربون عرش فرنسا الذي كانت الثورة، ثم بونابرت قد سلباهم إياه... ولم يكن صدفة أن يجد شاتوبريان نفسه يضع هذا الكتاب في وقت كان بات واضحاً أن الإمبراطور في طريقه إلى التنازل عن العرش، بعدما تكالبت ضده الأمم الأوروبية، وبدا هو - أي الإمبراطور - وكأنه قام بكل ما في وسعه لإنقاذ ذلك العرش وإنقاذ نفسه من دون جدوى. إذاً، فإن شاتوبريان إنما يقرر في كتابه أمراً شبه واقع ووضعية بدت نهائية، حين تبدى واضحاً أن ما هو مطروح أمام فرنسا، إذّاك، إنما هو عودة الملكية من طريق تسنم لويس الثامن عشر العرش. وتألف الكتاب من ثلاثة أقسام، في أولها ركز شاتوبريان اهتمامه على «بوونابارتي»، مصدراً في حقه أحكاماً شديدة القسوة، واصفاً إياه بـ «الغريب» الذي «غدر بالثورة لكي يبني مجده الخاص»، فصار سيداً على الفرنسيين، بانياً ذلك المجد «كما يفعل كل الذين يصبحون رجالاً كباراً بالتزييف والتزوير» على «أطلال الشعب وضد سعادته». والحقيقة أن الرغبة في التشديد على هذا كله، قادت شاتوبريان إلى تقديم صفحات وفصول تحفل بكل ما كان تردد عن نابوليون من إشاعات وحكايات، ليس داخل فرنسا وحدها، بل في شتى أرجاء أوروبا، من ذلك النوع الذي كان شاتوبريان نفسه قد نقضه وندد به قبل سنوات حين كان لا يزال يعيش في ظل نابوليون مخلصاً له مدافعاً عنه معتبراً إياه «واحداً من كبار رجال التاريخ». الآن يبدو أن كل شيء قد تبدل... والكاتب عبّر عن هذا التبدل وأسهب في وصفه، ولكن من دون أدنى إشارة إلى مواقفه الخاصة السابقة، ومن دون أدنى اعتذار عن كل تلك الدعاية التي كان صاغها في الماضي لمصلحة سيده.
> في القسم الثاني من الكتاب، وبعد أن يصفّي شاتوبريان حسابه مع نابوليون، ينتقل إلى الحديث عن آل بوربون «أصحاب الحق الشرعي في العرش»، ويظهر، بلغة أدبية جزلة تقرب من حدود الشعر - والخطاب الديماغوجي في الوقت نفسه -، كيف أن على الشعب الفرنسي أن يضافر كل جهوده ويتجمع من حول أصحاب العرش الشرعيين «هؤلاء الذين هم وحدهم القادرون على توفير السلام والسعادة والنظام للأمة جمعاء»، بحسب رأيه. وإذ ينتهي الكاتب من التغني بهؤلاء الملوك وحكمهم ويتيقن من أن قارئه قد اقتنع تماماً بوجهة نظره، ينتقل إلى القسم الثالث من الكتاب، وهو قسم يخصصه للحديث عمّن سماهم الحلفاء الطبيعيين لأنصار الشرعية الملكية كما لآل بوربون. وهؤلاء الحلفاء هم في رأيه، الأمم الأوروبية الأخرى. وهنا، سعياً وراء إقناع يبدو بالنسبة إليه أكثر صعوبة (من الإقناع بشرعية آل بوربون)، طالما أنه يعرف موقف الفرنسيين الحذر من كل ما هو تدخل أجنبي في بلدهم، يتوقف شاتوبريان طويلاً كي يتمكن من تبرير التدخل الأوروبي الذي من دونه لا يمكن اقتلاع نابوليون، وباستشرائه قد تكون ثمة مجازفة بأن يرتد الشعب الفرنسي المقهور أيام حكم الإمبراطور إلى مناصرة هذا الأخير. هنا في هذا السياق يبدو شاتوبريان، وكأنه يلعب على حبل مشدود بعدما كان مرتاحاً تماماً، في صياغة القسمين الأولين من الكتاب. وقد تمثل هذا اللعب في الحديث، بلغة شديدة الازدواجية، عن «الشر المطلق الذي راكمه الإمبراطور حين مكّن الدول الأجنبية من ممارسة سياسة همّها إضعاف هيبة فرنسا ومكانتها في العالم». ومن هنا - ودائماً بحسب رأي شاتوبريان - «إذا كان الأوروبيون يستعدون الآن لغزو الأراضي الفرنسية وإلحاق العار بالشعب الفرنسي، فإن نابوليون - أي «الغريب» هو الآخر - هو المسؤول الأول والأخير عن هذا». وبهذا يبدو واضحاً أن شاتوبريان إنما أراد من كتابه أن يكون تبريراً للتدخل الأجنبي، وتمهيداً لعودة الملكية، ودفناً للإمبراطور في آن معاً. ولنا أن نتصور هنا مقدار عمق الدوافع السيكولوجية - لا السياسية فقط - التي كانت تحرك شاتوبريان حين وضع هذا الكتاب.
> طبعاً لن نبالغ هنا لنقول إن هذا الكتاب لعب حقاً الدور الذي كان مؤلفه يزعمه له أو لنفسه، حتى وإن كنا نعرف، بطبيعة الحال، أن ما نادى به الكتاب تحقق على كل الصعد. وهو أمر أرضى غرور شاتوبريان وجعله يعتبر نفسه مساهماً أساسياً في التغيير السياسي الراديكالي الذي أصاب فرنسا في ذلك الحين، وقد نسي أن الأحداث أتت قبل وصول الكتاب إلى الناس، في معنى أن الأحداث حين جرت تجاوزت الكتاب وصاحبه تماماً. غير أن هذا لم يمنع فرانسوا رينيه دي شاتوبريان (1768 - 1848)، من أن يمضي بقية حياته زاعماً أنه هو الذي أسقط الإمبراطور وأقنع الشعب الفرنسي بضرورة التدخل الأوروبي. والحقيقة أن ثمة كثراً من الفرنسيين صدقوه، ولو انطلاقاً من احترامهم له ككاتب عرف بأعمال أكثر أهمية من هذا الكتاب بكثير، مثل كتاب مذكراته الأساسي «مذكرات من وراء القبر» أو «عبقرية المسيحية» أو «آتالا» و «الشهداء» و «رحلة من باريس إلى القدس» وبخاصة «مغامرات آخر ملوك بني سراج»...

(الحياة 2014-07-21)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات