«لو بير دوشين» تصرخ في فرنسا: انتهت الثورة ورعبها.. لنبنِ الدولة الآن!

تم نشره الثلاثاء 29 تمّوز / يوليو 2014 04:03 صباحاً
«لو بير دوشين» تصرخ في فرنسا: انتهت الثورة ورعبها.. لنبنِ الدولة الآن!
ابراهيم العريس

«لقد كان هناك من بين زعماء الثورة الفرنسية ومفكريها، أناس صدّقوا أنها ثورة حقيقية، وليست في نهاية الأمر مجرد لعبة لاستلام السلطة...». قائل هذا الكلام، آخر القرن الثامن عشر، كان واحداً من الذين بدأوا حياتهم شديدي الحماسة للثورة أول الأمر، لكنهم انتهوا معادين لها. وكان هذا التحوّل الجذري لديه، بعدما رأى ما آلت إليه حال الثورة، وكيف راح القادة الكبار يذبحون بعضهم بعضاً متنازعين السلطة حين بدأت الثورة تتحول إلى دولة. وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا ما قاله ذلك الثوري في الوقت الذي نُسي اسمه، فما هذا إلا لأن هذه العبارة، التي قيلت في الثورة الفرنسية، كان يمكن - ولا يزال في الإمكان - أن تقال عن كل الثورات التي عرفها التاريخ في أي مكان من العالم. فالثورة - ولن نسأم من تكرار هذا القول الذي صار بديهة - تأكل أبناءها ما إن تستتب لها الأمور، على رغم كل النيات الطيبة التي يكون الثوار حاملينها منذ البداية. الثوار الطيبون هم الوقود الحقيقي وربما الوحيد للثورة. والثورة الفرنسية لم تشذّ عن هذه البديهة، كما لن تشذ عنها الثورة الروسية ولا الكوبية، ولا ثورة هتلر النازية أو ثورة موسوليني الفاشية... وصولاً الى ثورة الضباط الأحرار في مصر، وثورة الخميني في إيران، كي لا نتمدد في الزمن أكثر من هذا. ومع ذلك كله ثمة دائماً من يصدقون ان الثورة ثورة ويتصرفون على هذا الأساس. ومن بين هؤلاء واحد من المفكرين الذين قدموا بعض أهم الإسهامات في الثورة الفرنسية، فكان واحداً من الذين لم يتردد روبسبيير في إعدامهم. نتحدث هنا عن جاك - رينيه هيبير، الذي يكاد يكون نسياً منسياً اليوم... كالعادة.
> ولكن إذا كان من النادر لأحد أن يتحدث عن هيبير هذا، فإن كثراً لا يمكنهم أن ينسوا اسم واحدة من أكثر الصحف التي صدرت إبان الثورة الفرنسية حماسة، وهي الصحيفة التي كان اسمها «لو بير دوشين» (أو الأب دوشين)... والتي أصدرها هيبير نفسه بدءاً من العام 1790، ليتوقف صدورها في العام 1794، وتحديداً في اليوم الذي اعتقل فيه هيبير تمهيداً لمحاكمته ثم إعدامه من طريق المقصلة بأمر من روبسبيير. ظلت «لو بير دوشين» تصدر حوالى الخمس سنوات، وكان لها طوال تلك السنوات - وهي، على أي حال، سنوات الحماسة الثورية الكبرى، والتي سبقت استشراء الإرهاب الذي حل، كما في كل ثورة، محل المثل الثورية العليا -، كان لها جمهور واسع يتابعها ويقرأها ويتأثر بها، ما جعل هيبير، في ذلك الحين، واحداً من أكثر مفكري الثورة الفرنسية شهرة وشعبية. والحال اننا لن نكون جد بعيدين من المنطق إن قلنا إن تلك الشعبية كانت ما دفع روبسبيير الى إعدام هيبير، طالما اننا نعرف، انطلاقاً من كل دروس التاريخ وحكاياته، ان أخشى ما يخشاه «الزعيم» عادة، إنما هو تلك الشعبية التي تحيط بواحد من رفاقه. كانت شعبية هيبير من النوع الذي من شأنه أن يخيف حقاً، شخصاً دموياً متعنتاً وضئيل الاهتمام بالفكر، مثل روبسبيير.
> وفي لعبة الخوف تلك كانت صحيفة هيبير، سلاحه الأقوى، خصوصاً أنه، ومنذ البداية، حين اختار لها هذا الاسم «لو بير دوشين» إنما أسبغ عليها تلك السمة، إذ نعرف ان الاسم في الأصل كان يستخدم من جانب الباريسيين للدلالة على ما نسميه الآن «كبش المحرقة» أي ذلك الشخص الباريسي البسيط والصادق، الذي يحلو للظالمين أن يتهموه بكل شيء، بكل فساد وجريمة وموبقة، لاصقين به ظلماً، ما يكونون هم، في الحقيقة، مقترفينه. ومن الواضح هنا ان هيبير، حين اختار هذا الاسم، إنما وضع نفسه منذ البداية من منظور الشعب الباريسي البسيط، ضد الكبار. وهو، لبساطته، كان يعتقد بأن هذا من شأنه أن يضعه على الدرب السليم ويؤمّن له حماية شعبية دائمة. صحيح ان هذه الحماية تأمّنت، لا سيما خلال سنوات الإرهاب الثوري الأولى، حين راح الناس يقرأون الصحيفة بنهم وحب شديدين... غير أن هذا ساهم، كما أشرنا، في إنزال اللعنة بذلك المفكر الطموح.
> من موقعه الفكري في صحيفته، بدا هيبير، منذ البداية، متمسكاً بالفكرة الدستورية أكثر من تمسكه بالفكرة - الثورية. بالنسبة اليه ها هي الثورة قامت ونجحت، وبات علينا الآن ان نعود الى الدستور وإلى الناس أصحاب المصلحة في سيادة الدستور. لقد صار من الضروري الآن بناء الدولة خارج السيطرة الحزبية، خارج المصالح المنفردة لأي حزب، لأن «الدولة وسيرها على خطى حياة دستورية حقيقية، هما ما يؤمن نجاح الثورة من الآن وصاعداً»... كان هذا شعاره، وكان هذا هو الشعار الذي استثار بتأييد الناس له. كان ذلك التأييد الواعي، دافعه الى أن يضاعف من حجم التعبئة الفكرية التي راح يمارسها، لا سيما من خلال الهجومات الكلامية والفكرية التي راح يجابه بها الجيرونديين واهتمامهم بالصغائر وتوجهاتهم الدموية، وكان أولئك الجيرونديون، كما فعل اليعاقبة أيضاً - والفئتان شكلتا العمود الفقري للثورة الفرنسية في ذلك الحين في الوقت نفسه الذي استشرى فيه الصراع الدامي بينهما وراح الشعب البسيط يدفع الثمن، وكذلك المفكرون الأحرار، ناهيك بمن كان يقتله كل طرف من مؤيدي الطرف الآخر وقادته -. والحقيقة انه بمقدار ما كانت مقالات هيبير تلقى إقبالاً وتأييداً من الناس، بقدر ما كان هو يزيد من وتيرة الحدة في مقالاته... لكن النجاح، وكما الحال دائماً في مثل تلك الوضعية، أعماه وجعله يعتقد بأن كل شيء صار في متناول يده، ومن هنا راحت مقالاته ترتدي أكثر وأكثر طابعاً ديماغوجياً، جعله نجم الجماهير من دون منازع. صار، كما خيل إليه، البطل الذي يحميه الشعب والذي لا يمكن أحداً أن يمسه. ولم يكن، أول الأمر، بعيداً من الصواب في ذلك الاعتقاد، خصوصاً انه حين اعتقل أول مرة من جانب زعماء الثورة، لم يتمكن هؤلاء حتى من إسكات صوت صحيفته، بل لم يتمكنوا من إبقائه في المعتقل طويلاً، إذ سرعان ما اضطروا الى إطلاق سراحه تحت ضغط الجماهير. ثم كان اغتيال مارا، الذي رفع هيبير صوته في شكل أعلى لمناسبته، فصار من جديد أكثر وأكثر، رمزاً للمطالب الشعبية، وصوت الأمة - كما لقب -، ولم يعد ثمة قارئ في فرنسا يمكنه الاستغناء عن قراءة «لو بير دوشين». وصعدت الحرارة الى رأس صاحبنا أكثر وأكثر... وهكذا بدلاً من أن يخفف من حدة هجومه على زعماء الثورة، وسّع دائرة الهجوم، في مقالاته، لتشمل هذه المرة الأغنياء والموظفين والمحامين وحتى القساوسة. لم يعد في وسعه أن يهادن أحداً «باستثناء الشعب البسيط»، معلناً انه لم يعد أمام البائسين المستضعفين أن يعتمدوا على أحد غير أنفسهم، مذكراً بأن «السيد المسيح نفسه كان بائساً مستضعفاً، لذلك نجحت ثورته وارتباطه بالناس». والناس طربوا لكلام هيبير هذا ولمقالاته، ما شجعه على مهاجمة الجميع، بمن فيهم دانتون وديمولين، حتى اصطدم بالقاسي سان - جوست في هجوم لم يكن في وسع هذا الأخير ان يتحمله، فاتهمه - كالعادة - بالعمل لمصلحة القوى العظمى الأجنبية. وهو اتهام تلقفه روبسبيير الذي لم يكن ينتظر غير هذا، ليأمر بإعدامه. وهكذا كانت نهايته وبالتالي نهاية صحيفته.
> غير ان الناس لم ينسوا الصحيفة، لذلك راحوا يشترون ويتبادلون أعدادها القديمة التي صدرت بين 1790 و1794، على اعتبار انها في كل تلك الأعداد إنما عبّرت، حقاً، عن موقف الناس البسطاء، الشعب الحقيقي، من الثورة بعيداً من ديماغوجية الزعماء وأكاذيبهم. وحتى يومنا هذا، لا يزال طلاب التاريخ ودارسوه، يراجعون، في المكتبات العامة، النسخ النادرة من «لو بير دوشين»، لدراسة جانب من «الزمن الثوري» يهمله عادة التاريخ الرسمي للثورة، إلا حين يكتبه أعداؤها.

(الحياة 2014-07-29)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات