«مصابيح الهندسة السبعة» لراسكن: قوانين صارمة من رائد العمران المعاصر

تم نشره الخميس 31st تمّوز / يوليو 2014 04:04 صباحاً
«مصابيح الهندسة السبعة» لراسكن: قوانين صارمة من رائد العمران المعاصر
ابراهيم العريس

حتى لئن كان الموضوع الأساس لفيلم مايك لي الأخير «مستر ترنر»، والذي فاز بجائزة أفضل ممثل يروي سيرة الفنان الإنكليزي ويليام ترنر، فإن حضور الناقد جون راسكن فيه كان لافتاً حيث قُدّم هذا الأخير بسطوته المدهشة في عالم الفن في لندن في ذلك الحين. والحال ان الفيلم لم يف راسكن سوى بعض حقه وهو الذي كان معروفاً بمعاركه الفنية وهيمنته ورعب الفنانين منه. وفي هذا السياق، نذكر انها كانت معركة حامية، وربما من أعنف المعارك التي دارت بين فنان وناقد، تلك التي اندلعت منذ العام 1878، بين الرسام ويستلر وراسكن، الذي كان يعتبر في ذلك الحين سلطة ثقافية حقيقية. كان مقال لراسكن، في الأدب (الشعر خصوصاً) او الفن (الرسم بخاصة) كفيلاً برفع شأن مبدع او تحطيمه. ومن هنا خاض الرجل معارك عدة، كان بعضها يصل الى القضاء. غير ان ما من معركة من تلك التي خاضها بدت في عنف معركته ضد ويستلر. واللافت ان هذا الأخير خرج من تلك المعركة مفلساً محطماً، مع ان كلمة القضاء كانت لمصلحته. ذلك ان الجمهور الفني ما كان يمكنه ان يقف مع ويستلر ضد راسكن، اذ اتهم هذا الاخير الفنان بابتعاده عن الواقعية وصعوبة أعماله بحيث لا يمكن فهم ما يراد منها، ودافع ويستلر عن نفسه على اساس «حرية الفنان»، بل حتى، مبدأ «الفن للفن». اذاً، القضاء اقره على هذا المبدأ وأعطاه صلاحية أن يعبّر عن نفسه كما يشاء، لكن الناس وقفوا مع من نطق باسمهم. ومن هنا كانت تلك المعركة اساسية في تاريخ الحركة الفنية الانكليزية خلال الربع الاخير من القرن التاسع عشر. غير ان ما يمكن قوله هنا، هو ان راسكن لم يكن ديماغوجياً ولا مفترياً على ويستلر. كان منطقياً مع نفسه هو الذي، في كتاباته كلها، لم يكن يهادن في مسألة الوضوح والدنو من الواقعية قدر الامكان، مدافعاً عن بساطة تيار الما/قبل/رافائيليان، وعن كل ما هو واقف الى جانب المضمون في الفن، لا يضحي به على حساب الشكل. جدانوفية ستالينية قبل الاوان؟ ربما... لكن المهم ان الرجل كان صاحب موقف واضح ونزعة لها منطقها الخاص، منذ بداياته، حين راح يظهر على مسرح الحياة الفنية والادبية الانكليزية ناقداً مثقفاً ذا نظرة ثاقبة وأسلوب حاد واضح وصارم في الكتابة كما رأيناه في فيلم مايك لي.
> وعلى رغم ان في وسعنا ان نتحرى هذا كله في العدد الاكبر من كتب راسكن ودراساته، التي تناول فيها الشعر والرسم، والافكار الفلسفية، فإن الكتاب الذي يمكن التوقف عنده هنا انما هو كتاب عن الهندسة المعمارية. وهو كتاب مبكر اصدره راسكن وهو، بعد، في الثلاثين من عمره فراج وانتشر، وساهم مساهمة اساسية في السمعة التي صارت للكاتب/الناقد.
> وفي هذا السياق يمكننا حتى أن نقول ان هذا الكتاب أحدث انعطافة في توجه راسكن، فهو - من قبله - كان يبدو في مواقف وكتابات أولية، متعاطفاً مع متذوقي الجمال في شكل عام، ما جعل انصار مذهب «الفن للفن» يعتبرونه واحداً منهم. غير ان صدور هذا الكتاب، وعنوانه «مصابيح الهندسة السبعة»، فاجأ الكثر بكيف ان راسكن يبدّي، في حقيقة الامر، الهم الاجتماعي - الإصلاحي، على الهم الجمالي، ويركز حديثه وسجالاته حول المسائل الاقتصادية النفعية، ما أوصله لاحقاً الى مواقف سياسية شغلت النصف الثاني من حياته. اذاً، ما لدينا هنا كتاب اعلن فيه مؤلفه انحيازه الى «الواقعية» على حساب الإفراط في الذوق الجمالي... كما سنرى في السطور التالية، انما بعد ان نشير الى ان الدافع الرئيس لدى راسكن، في مجال حدوث ذلك الانعطاف لديه، انما كان اكتشافه اواسط القرن التاسع عشر، افكار ويليام موريس الاشتراكية، وتعاطفه معها.
> نشر راسكن كتابه هذا في العام 1849. وأكد منذ مقدمته ان الهندسة العمرانية بالنسبة إليه ليست مجرد تقنية، بل انها فن ايضاً. فن يحمل ابداعاً حقيقياً... ولكن كيف؟ ان الهندسة هي التي تسم المبنى بجمال يجعل له هيبة ومظهراً أخاذاً. ومن هنا، فإن راسكن يربط الهندسة بالنحت والرسم، بل تبدو الهندسة لديه مزيجاً من هذين معاً... لكنه بعد ان يوضح لنا هذا، يتابع موضحاً، ان الهندسة اذاً، يجب ان تخضع لسبعة قوانين (يسميها مصابيح او قناديل)، هي «مصابيح الهندسة» او القوانين السبعة الرئيسة التي تضبط هذا الفن... لأنه - اصلاً - فن في حاجة الى ضبط. وهذه القوانين يحددها راسكن ضمن اطار الترتيب التالي تبعاً لأهميتها: قانون التضحية - وفحواه ان تتضمن الهندسة مواد ثمينة، ليس لأنها ضرورية بل لأنها - تحديداً - ثمينة (المرمر او الرخام مثلاً)، في معنى ان من يبني كنيسة يجب ان يستخدم مواد فخمة. القانون الثاني هو «الحقيقة» حيث ان المهندس الذي يريد ان يعطي عبر هندسته انطباعاً بأن ما يبنيه يختلف عن حقيقة المبنى، عبر استخدامه مواد مزيفة، وزينة مصطنعة، يقف ضد هذا القانون الاساس. القانون الثالث هو قانون القوة - او السلطة - في معنى ان المبنى المشاد يجب ان يُبنى بحيث يمكن الناظر اليه ان يراه دفعة واحدة، وبطيف يفرض حضوره، حيث ان ما يفرض هذا الحضور ليس المقاييس والكتلة وحدهما، بل الظلال التي تحدد اطار تلك المقاييس، وتفرض المبنى على بيئته. اما القانون الرابع فهو قانون الجمال. وهنا يقول لنا راسكن ان كل الخطوط الجميلة الأخاذة انما هي - في نهاية الامر - اقتباس للخطوط العامة التي نراها في شتى انحاء كوننا هذا، مشتركة بين كل الاماكن... لافتاً الى ان التناسق بين الخطوط يرتبط عادة بالخطوط الافقية، اما الخط العمودي فله علاقة - تقنية - بمسألة المقاييس والنسب لا اكثر. وفي هذا الاطار الجمالي نفسه، يلاحظ راسكن ان الألوان التي يجب التعامل معها يجب ان تكون الألوان الاقرب الى لون الحجارة الطبيعية، اذ بقدر ما تقترب الالوان من الطبيعة، يبدو المبنى مندمجاً في بيئته، فيبرز بظلاله وخطوطه في الوقت الذي يشكل فيه جزءاً من المكان. وهنا يوصلنا راسكن الى القانون (او المصباح) الخامس وهو ما يطلق عليه اسم قانون «الحياة»... فالأشياء، بالنسبة اليه، تكون اكثر نبلاً بمقدار ما تكون مرتبطة بالحياة مباشرة، او تحمل في ذاتها سمات الحياة وطابعها. اما أمارات الحياة هذه، فتتلخص في ما ينجم عن شيء من الاهمال المقصود، المرتبط بخرق ما لقوانين التناسق... عبر أمارات وسمات تعطي انطباعاً بوجود قوة حيوية معينة تريد ان تعبر عن ذاتها. ويرى راسكن هنا ان ما هو حيّ في الفن، هو كل ما ينجز بفرح مقصود. اما بالنسبة الى القانون السادس، فإن راسكن يربطه بالذاكرة: ان الهندسة المعمارية تمركز التأثير المقدس للذاكرة وتحميه، في معنى ان العمل الفني الهندسي يجب ان يستثير لدى الناظر اليه ذكريات فيصبح معْلماً ونصباً... وحتى المنزل الذي يشاد للسكن يجب - في هذا الاطار - ان يكون قابلاً للديمومة ومثيراً للذة العيش والمشاهدة... وفي هذا الاطار يلاحظ راسكن كيف ان «بيوت ايامنا هذه لا تبدو مختلفة عن خيام البدو والغجر». وأخيراً في القانون السابع تلوح مسألة الطاعة، أو الإخلاص لبيئة قومية ما... لئلا يبدو المبنى المشاد نافراً.
> عبر قوانينه السبعة هذه، يرسم جون راسكن (1819-1900) الكثير من الاطر الفنية والتقنية... هو الذي، اذ يشاء ان يعطي امثلة على ما يقول، يورد أمثلة مستقاة من الهندستين الفرنسية والايطالية. وهو في طريقه يورد الكثير من الملاحظات على الفنون الكلاسيكية وفنون العصور الوسطى... غير ان هذا كله، بما فيه من اشارات جمالية واضحة، لا يمنع الكاتب من ان يلحّ مركزاً، في كل فصل وصفحة على ضرورة ان يخضع البعد الفني للمسألة الاخلاقية والاجتماعية... وهو ما يشي ببداية ظهور نزعة راسكن الواقعية التي تكاد تكون نزعة دينية في امتثاليتها وواقعيتها، ما يجعل راسكن هذا يعتبر، الى حد ما، سلفاً لأشهر اقطاب المدارس البغيضة في الهندسة، من الذين بنوا لاحقاً، في دول المعسكر الاشتراكي بخاصة، مدناً وعمارات وأحياء شديدة التجهم على رغم القوانين - المصابيح - التي صاغها ذلك الاب الروحي الصارم.

(الحياة 2014-07-31)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات