سيمفونية "الثلج الحار"

تم نشره الجمعة 10 تشرين الأوّل / أكتوبر 2014 12:26 صباحاً
سيمفونية "الثلج الحار"
د.أحمد جميل عزم

اقتبست صحيفة "الغارديان" البريطانية، في مقالٍ الشهر الماضي، قول عالم الموسيقى البريطاني نيكولاس كوك: "من بين كل أعمال الموسيقى الغربية الرئيسة، تبدو السيمفونية التاسعة (لبتهوفن)، كما لو كانت مكونة من مرايا؛ تعكس القيم والآمال والمخاوف، لهؤلاء الذين يسعون لفهمها وتوضيحها. فمنذ عُزفت أول مرة (في فيينا العام 1824) وحتى اليوم، توحي السيمفونية بتفسيرات متباينة للغاية (...). بدايةً، تحتاج تقنيات (عزف) أقرب للإعجاز، وأهم من هذا المثالية المجنونة الإنسانية الطُّهريّة في كلمات غناء الكورال المصاحب، لمؤلفه فريدريك شيللر (في قصيدته) "لحن السعادة"".

يعتبر مختصون هذه السمفونية أعظم ما بلغته الموسيقى.

ربما لم يقصد محمود عيسى، وهو يكتب في روايته "رسالة من طبريا: موسم الثلج الحار" كيف دخل الفدائيون نهاية الستينيات "الأرض الحبيبة" بعد عبورهم نهر الأردن، فصار صوت شجيرات القصب، وخرير المياه، "يعزف لحناً روتينيّاً جميلاً وصاخباً كالضربات القوية في السيمفونية التاسعة للسعادة البتهوفينية"؛ لم يقصد أنّ مسيرة الثورة والفدائي ضجّت بهذه التفسيرات والمعاني والحراكات المتباينة والمتناقضة. ولكن المشهد الذي رسمه للعمل الفدائي في نهاية الستينيات يثير هذا الاختلاط "السيمفونيّ".

هل كانت "ثورة المستحيل" كما وصفها (ربما) الجنرال الفيتنامي جياب، عملت في ظروف صعبة للغاية؟ أم ثورة فيها تسرّع وارتجال وأخطاء وإخفاقات؟ أم كليهما؟

تدخلك رواية عيسى الصادرة حديثاً، وكغالبية كتابات "الفدائيين"، في حيرةٍ وأنت تحاول تمييز الحدود بين الحقيقة التي تجدها موجودة في أسماء وأحداث تعرفها (أبو علي إياد، وفتحي أبو الهيجاء، والفسفوري، وشاستري..)، وبين الخيال ربما في القصص الشخصية، وقصص الحب والتضحية والعشق والخوف والإقدام والكبوات الفردية والعامة، لأبي غيدا، وحليمة، وليلى، وأبو كنعان.

عندما كتب يَحيى يخلف عن المرحلة والأماكن نفسها، في روايته "جنة ونار"، تحدث أيضاً عن سيمفونية بيتهوفن الثالثة التي تمجد بطولة الإنسان في كفاحه نحو الحرية. فلماذا هذا البحث عن السيمفونيات؛ هل هو الصخب، والاختلاط، والقوة، في آن؟

في مذكرات "من أوراق ثورة مغدورة" لنزيه أبو نضال، بوحٌ مختلف؛ فيه حديث عن الإنسان العادي المتماهي مع الفدائي والفداء، ولكنْ فيه سؤال: "لماذا هُزمنا في كل المعارك التي خضناها؟".

ولد بطل "رسالة من طبريا: موسم الثلج الحار"، جواد، في مخيم في مدينة بعلبك بلبنان. اسمه "ويفل"؛ وهو اسم أحد جنرالات فرنسا الذي سكن الناس في "بركسات" كانت اسطبلات لخيول الدرك الفرنسي. والمؤلف الدكتور محمود عيسى ولد في المخيم نفسه، وانتظم بدوره في شبابه، مثل جواد، مقاتلا في قواعد الثورة الفلسطينية.

تقرأ حالات المعاناة والاضطهاد التي عاشها الفلسطيني في مخيمات لبنان؛ حيث رب العمل يغازل الفتيات في المزرعة، ويضطهد ويشتم ويضرب ويطرد الشبّان. وعندما لا يُعرَف من وزّع بياناً سياسيّاً، يُعاقب أهل المخيم جماعيّاً، ويتم ضربهم "فلقة" على الدور، وحالات ضرب بالمِطرقة على الأسنان...!

تفهم بعد هذا أنّ حمل السلاح، وارتداء الكوفيّة، لم يكونا مجرد محاولة استرداد وطن، ولكن أيضاً لاستراد إنسانية: رجولة وأنوثة، كأنما صارت الثورة مطلوبةً لذاتها. وليس غريباً إذن انضمام ثوّار من بلدان العرب والعجم والغرب. ومنهم فلاح أجلسه إقطاعي قسراً في قناة المياه ليصبح جسده حجراً لتحويل مسار المياه، فيصبح الانضمام للثورة خلاصاً. ولا بأس من تعري فدائي بدوي يغطس في النهر، طلباً للوضوء ثم الصلاة، أثناء الكمون لدوريّة إسرائيلية، ففي الثورة تكتسب الأمور معاني مختلفة.

كأنّهم صعاليك قالوا قولَة الشنفرى لقومه، بأنّه سيرحل عنهم ويختار سواهم بمن فيهم ضباعٌ ونمور وزرافات:

أقيموا بني أمي، صُدورَ مَطِيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميلُ

تدخل الدّوريات عُمق الأرض السليبة، وتطلق القلوب ضربات سيمفونية. ولكن عملية القصف في طبريا تُخفق. وتحار كيف تكون نتيجة البطولة والثورة والتضحية والتدريب القاسي جداً، فشلاً. ويتداخل فشل عمليات بنجاح أخرى، وتختلط لوعة صبايا انتظرن حبيباً عاد مُستشهداً مع حُبٍ وزفاف؛ ويلي بترُ قدم فدائي قبول الحبيبة به.

تنتهي اللغة الروائية، وتختفي السيمفونية، بوصول الأمر لصِراع الإخوة.

يبقى القلب مُعَلّقاً بوطن هناك، وبحياة تأتي. ويظلُّ مشهد تلك الثورة مفتوحاً على "مرايا؛ تعكس القيم والآمال والأفكار والمشاعر المختلطة لهؤلاء الذين عاشوها ويسعون لفهمها وتوضيحها". ويبقى من يُؤمِن بالثورةِ، حتى وإن تطلبت تِقنيات أقرب للإعجاز.

( الغد 2014-10-10 )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات