إعدام!

ربما تكون القضية الأكثر تداولا ومتابعة خلال الأسبوعين الأخيرين، هي استجلاب ملف الإعدام من تحت الركام ووضعه بقوة على طاولة النقاش، أمام جموع الناس الذين يبدو أنهم كانوا يملكون رأيا نائما في الموضوع، استيقظ على وقع عودة الخيار الغائب.
التقرير الذي أعدته الزميلة غادة الشيخ ونشرته الغد أمس ضمن سلسلة "عشرون" المصورة والتي تعتمد أساسا على قياس الرأي العام، قام بالتركيز على وجهة نظر الجمهور في موضوع عودة تطبيق حكم الإعدام بعد تغييبه لمدة تجاوزت ثماني سنوات. نتائج التحقيق المصور جاءت لتؤكد على تأييد خمسة وثمانين بالمائة من عينة الجمهور لإعادة تنفيذ العقوبة، فيما اعترضت خمسة عشر بالمائة من العينة على إعادته.
ما يلفت الانتباه حقا هو توقيت إعداد المادة الصحفية والمرتبط أساسا بفتح ملف إعادة تنفيذ العقوبة رسميا، إنما يبدو من ردود فعل الناس أن آراءهم جاءت متزامنة مع عامل آخر، وهو الزيادة المرعبة في جرائم القتل والتي سجلت في يوم ما من الأسبوع الفائت أربعة جرائم مرة واحدة. وقد أكد التقرير من خلال تبريرات المطالبين بعودة تنفيذ العقوبة، كما تؤكد أحاديثنا في البيوت والعمل والأماكن العامة، أن كثرة انتشار الجريمة هي السبب الأول للمطالبة بعودته حتى لو اتهمنا من قبل منظمات حقوقية بمناهضة مدنية الدولة!
إذا فالموضوع ليس مرتبطا أساسا بالأمر الالهي والشريعة الإسلامية كما يحب البعض أن يبرر تمسكه بتنفيذ عقوبة الإعدام علي القاتل، بقدر ما هو نتاج لتخوفات مجتمعية عريضة من انتشار حجم جرائم القتل وزيادتها، إن لم يتم تنفيذ الأمر الالهي. فإن كان مبرر الحكم الشرعي هو الشائع كما يكرر بعض الجمهور بكسل واستسهال، من المؤكد أن ذات الآراء ستنقلب كليا إن تعلق الأمر بالسرقة أو الزنى أو شهادة الزور. ربما يقول قائل لكن القتل هو جريمة الجرائم فيرد آخر بدفوعات قانونية وشرعية تؤكد الآثار الجرمية لتلك الأفعال المضاهية لإنهاء حياة إنسان بالموت.
هذا لا يلغي أبدا فكرة أن تنفذ أقصى عقوبة على القاتل ليس فقط لأنه العدل الالهي في القصاص، بل لأنها الطريقة الناجعة الوحيدة برأيي لردع النوايا المبيتة للقيام بالفعل، خصوصا بعد أن يثبت للهيئة القضائية سبق الإصرار والترصد من قبل الجاني.
وبالعودة للأساس الذي يظهر جليا في المطالبات بتنفيذ الحكم، والمرتكن إلى انتشار حجم الجريمة وزيادتها بشكل مخيف جدا، بل ونشر تفاصيلها في الصحف والمواقع الإخبارية، بما تتضمنه من حجج القاتل أو القاتلة في إنهاء حياة أب أو أولاد أو حبيبة أو زوج أو ابن عم أو صديق أو رضيعة "كما حدث قبل يومين"، فإن الدولة التي يهمها أن تردع بقوة القانون، عليها أن تركز كثيرا أيضا وتولي اهتمامها بالبيئة الحاضنة للجريمة التي يستند عليها القتلة من حيث يدرون أو لا يدرون، لتبرير جرائمهم مثل الفقر المدقع أو غياب العدالة في توزيع الفرص الحياتية والمهنية أو انتشار الأمراض النفسية والعلل المجتمعية. وهذا كله طبعا لا يقع على عاتق الحكومات والمسؤولين، بل يتقاسم المسؤولية المجتمع نفسه باستسلامه الإرادي للآفات الاجتماعية المستجدة على علاقاتنا ببعضنا، وقبوله المهزوم بمفاهيم الرضى و"الغطرشة" والسير بجانب الحائط أملا أن يحتار عدوه فيه، فيما عدوه ينمو بداخله ويترعرع على شكل قلق وخوف وكراهية وحقد.
قرار إعادة تنفيذ الإعدام يجب أن يعود إلى الواجهة من جديد ليشاهد كل من تسول له نفسه بإنهاء حياة شخص، ماذا سيكون مصيره في النهاية. ولكن ذلك يجب أن يرتبط أيضا بإعداد دراسة وطنية شاملة تقرأ وتفصل جرائم القتل في الأعوام القليلة الفائتة من كافة النواحي الإقتصادية والاجتماعية والتربوية والنفسية. فالأمر ليس لعبة "شرطي وحرامية"، بل مسؤولية تلقى على مفردات الدولة والمجتمع ككل يهمهم بالدرجة الأولى الحد من الجريمة لا ملاحقة ومعاقبة مرتكبيها فقط. فالخوف كل الخوف هو أن يصل اليأس والكره إلى القبول بتنفيذ العقوبة على قاعدة أريح وأرتاح، فلا نستفيد شيئا من إعادة تنفيذ الحكم. نحن بحاجة لمن يحيط بالأسباب بالعقل وليس من يقضي عليها مؤقتا بالوعيد .
(الغد 2014-11-18)