السلام المنشئ للذاكرة والنسيان

تم نشره الجمعة 21st تشرين الثّاني / نوفمبر 2014 06:01 صباحاً
السلام المنشئ للذاكرة والنسيان
ابراهيم غرايبة

"ما كان، لا يمكن بعد اليوم ألا يكون قد كان: بعد اليوم هذا الواقع السري والغامض بعمق بأنه كان، هو زاده إلى الأبد" (فلاديمير يانكفليتش).

كان يبدو لي حتى وقت قريب مضى، أن الأشخاض الذين عرفهم أبي صالحون ورائعون. فعندما كان يتذكر ويروي القصص، أو يجيب عن أسئلتنا عن أشخاص ماتوا ولم نعرفهم، كان يروي مآثرهم ويصفهم دائما بالعطف والكرم، ويقدم تقديرا إيجابيا للناس. وحملت، وما أزال أحمل المشاعر نفسها لأشخاص كثيرين لم أعرف معظمهم. وحتى الذين أدركتهم فترة من الزمن قبل أن يتوفوا، غيّر أبي فكرتي عنهم بما كان يرويه من قصص جميلة عنهم، وتقديره الإيجابي لهم!
اليوم، وأنا أشغل نفسي بالذاكرة والنسيان والتسامح كمسائل تكوينية في الوجود والفكر والتاريخ والعلم؛ وفي ملاحظتي وإعادة التفكير فيما أسمعه من ذكريات يرويها الناس والجلساء والأصدقاء، أجد أنه تذكر ونسيان يعبر عن المتذكّر وحالته النفسية والاجتماعية، وما أمكنه أن يرتقي بنفسه ومشاعره وأفكاره.
لقد كان أبي في حالة سلام وغفران، جعلته ينشئ ذاكرة للحياة، وحكما على الناس، مستمدين مما أحل في نفسه من سلام وتسامح، وما درب نفسه وشكلها على أساسهما. لم يكن الناس كما يقدمهم لنا أبي في ذكرياته (وأنا أعرف وسمعت قصصا تختلف عما يتذكره). ولكنه يتذكرهم كما يحب أن يكونوا عليه وما يرجوه لهم؛ كانوا في ذكرياته كما يشعر هو، ويرى نفسه والحياة والعالم.
لم يكن أبي عالما أو فيلسوفا، ولم يقرأ بالتأكيد لبول ريكور "الذاكرة، التاريخ، النسيان"، وهناك الغفران في خاتمة كتابه وإن لم يضعه في العنوان؛ أو كتابه ذا المجلدات الثلاثة "الزمان والسرد". وربما لم يكن يقصد أبي تماما هذا المنهج التذكري، ولكنه كان يتذكر بما يفيض به من سلام وتسامح مع نفسه والعالم!
أذكر أننا تحدثنا معه عن أحد "الشيوخ" من أهل الجبة والعمائم؛ والذين كانوا يطوفون القرى والبلدات يعظون في المساجد ويتلون القرآن ويحيون "الموالد". كان أبي يظهر احتراما كبيرا لهم، ويراهم علماء صالحين. وبينما كنا نصفهم بالجهل والتسول، يبتسم أبي موافقا على أنهم كانوا يتلقون المال والضيافة من الناس، ويقول لعلهم يريدون إهانة أنفسهم لئلا يصيبهم الغرور! نضحك ونشعر أننا انتصرنا، وأن أبي يوافقنا الرأي!
اليوم، وأنا أفكر في ثقافة التنمية والمجتمعات المستقلة، أجد أن ظاهرة "الدعاة المتجولين" تعبر عن قدرة المجتمعات على تنظيم شأنها الديني والروحي مستقلة عن الحكومة، وأن هؤلاء الدعاة لم يكونوا متسولين، بل كانوا يؤدون خدمة تعليمية ودعوية وروحية، وكان الناس يقدمون لهم المال والضيافة متطوعين ومتحمسين لذلك. وكانت المجتمعات في ذلك تعبر عن قدرة على إدارة مواردها الذاتية، وتحقيق فائض تنفق به على تطلعاتها الروحية، وبحثها عن المعنى والجدوى اللذين وجدت بعضهما في تدين شعبي محمّل بالتاريخ والذكريات العميقة والأساطير الخالدة.
وهؤلاء الذين يروون ذكريات محددة ويكررونها مثل الصلاة الإبراهيمية، لم تسعفهم دراساتهم الجامعية ومشاركاتهم العامة في الارتقاء بأنفسهم، فظلوا يتذكرون على نحو يظهر كم تمتلئ نفوسهم وقلوبهم.. ويمكن أن تلاحظ في ذاكرتهم ما يكتمون، لكنهم يفيضون به؛ من الجلافة والكراهية والحسد والحقد والإعجاب بالذات لدرجة الاستغراق!
الغد 2014-11-21



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات