جدّك كان حصاناً!

المدينة نيوز- يقولون لا تهلك أسىً وتجلدّ" ... لكنه قلب الأب يا طرفة بن العبد!
يظلّ يتذكر: يوم قالت له الدّاية "ولد"، فما اسودّ وجهه، وجاء بالمطهّر للبيت، ويوم حمله في حضنه للحلاق أول مرة، ويوم اشترى له أول لعبة ولعب معه بها!
يوم سجّله في المدرسة، وحين علّمه قراءة "الفاتحة"، ويوم ركض به للطبيب المناوب مفزوعاً، وحين قال له أول مرةٍ "يابا"!
يظلّ يتذكر حين قال لإخوته في السجن بعد الزيارة: اليوم بَشّرتني بصبي، سأسميه "مصعب"!
يتذكره يخربش على الحيطان خريطة فلسطين وعَلَمَها، وحين تنهره أمه، يقول: اتركيه يرسمها ليحفظ حدودها جيداً!
...
سأهلكُ أسىً إذاً أيها الولدُ البِكر، حين تتركُ بيتَ أبيكَ وتروحُ تنام في سرير العدو!
سأخبئ وجهي كيلا يرى المصلّون دمعي الساخن، وسأتوكأ كتف الولد الغريب في السجن، كي لا أسقط يا ولدي البِكرعلى ركبتيّ أمام أعين السجّانين الشامتين!
هل كنتَ تكذبُ عَلَيّ حين تبوس يدي؟ وهل كان اسمي خلف اسمك يثقل ظهرك؟ هل كنتَ تفكر في خيانتنا وأنت تشرب الشاي معنا وتأكل الزعتر وتقاسم شقيقاتك الخبز وتضحك وتسأل عن عمّتك وتزيح الغبار عن التلفزيون بكفّ يدك و.. هل كنتَ تكذبُ عليّ يا أبي!
وحين كنتَ تهربُ من لجن الاستحمام الى حضني فأخبئك من أمّك، ونضحك، وتعبث بلحيتي بأصابعك، فأعضّ بطرف فمي أصابعك الطريّة، ونضحك، وتسألني: أبي لماذا قتل اليهود جدي؟ فأقول لك لأن جدك كان حصاناً، فتقول: وأنا سأصير حصاناً مثل جدّي، ونضحك .. كيف هانت عليك لحيتي والشيبُ وتلك الساعات يا أبي!
كنا نركض معاً في جنازات الشهداء، ونلمّ الحجارة معاً للرماة المناوبين في ليالي الانتفاضة، ومعاً يصرخ في وجهنا الجندي على الحاجز، وأنت الذي جفلتَ وأبعدت رأسك كالغزال حين مدّت الجندية يدها على رأسك!
كيف تسُلّم الآن رأسي؟!
...
سأهلكُ أسىً من دون أهلك؛ فأنا الذي حملتك لخيمة التدريب وقلتُ لهم: هذا مجاهدٌ صغيرٌ يحلمُ بفلسطين ويرسمها كل يومٍ كاملةً بالطباشير!
هل كنتَ تتمتم بحدود اسرائيل وأنت ترسم في بيتي خريطة بلادي يا أبي!
أشتهي أن أكرهك يا ابني .. فلا أستطيع، أشتهي ان أحبك لأنك ابني فأخجلُ؛ لأنك لم تكن حصاناً كما اشتهيتَ، وكما كان أبي!
...
هل تتذكر بيتنا في الشتاء؟
وهل تتذكر حين خبأتك تحت عباءتي من المطر الغزير، وحين ضممتكَ إلى قلبي يوم نجاحك في المدرسة، وحين اشتريتُ لك أول كرة، فضربتها بقدمك الساذجة الى رأس جدّتك، وعندما أعطيتك خمسة شواقل من خلف ظهر شقيقاتك، وحين علّمتك الوضوء أول مرةٍ فأغرقتني بالماء، وحين قصصتُ لك أظافرك، وحين تركل الشاي بدلعك الشديد فأروح طائعاً أبحث عن بائع الحليب، وعندما ضربتُك مرةً لشقاوتك فضحكتَ انتَ مدهوشاَ: كيف أضربك؟ وبكيتُ انا!
وهل تذكر حين جاء الجيش لاعتقالك أول مرّة فبكت أمك جزعاً عليك، وبكيتُ أنا فرحاً وانتشاءً بك!
لماذا تركتني يتيماً من دونك يا ابني البكر، ولماذا سلّمتَ دولتك.. ولم تجفل هذه المرّة وأحنيت رأسك للجندية الماكرة!
...
سأهلكُ أسىً، وربما كلّ أهلك!