أمـل دنقــل بلسـان عربـي مبيـن

من بين الكثيرين من شعراء الستينيات الذين قرأت لهم، سواء من استمروا منهم في الكتابة، أو توقفوا، أو توفوا، تحتفظ ذاكرتي بالقليل من أسمائهم، وأقل منها ما أذكره من قصائدهم. أمل دنقل، واحد من هؤلاء القليلين الذين ظلوا في البال رغم مفارقته للحياة في العام 1983م عن ثلاثة وأربعين عاماً من العمر أمضى السنوات الأخيرة منها مكابداً لداء السرطان الذي أودى به.
وكان لرحيله المبكر وقع مؤثر حزين آنذاك في الأوساط الأدبية العربية، وبخاصة لدى الشباب العربي الساخط على معاهدة الصلح المصرية - الإسرائيلية التي وقعت في ' كامب ديفيد' في العام 1979م، وعلى التقاعس العربي إزاء اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان في صيف العام 1982م.
فإذا كانت الأوساط الأدبية ـ والشعرية منها بخاصة ـ قد عرفت أمل دنقل كشاعر الرفض والاحتجاج، وصوت المُهمَّشين المتمرد الصارخ منذ قصيدته 'البكاء بين يدي زرقاء اليمامة' التي كتبها ونشرها غداة هزيمة حزيران ( يونيو) 1967م، فإن الشبّان العرب المنشغلين بالشأن العام في سبعينيات القرن الماضي قد عرفوه كرافض للصلح مع العدو، ولتمزيق الأخوة العربية على مذبح السلام المزعوم مع إسرائيل. وكانت قصيدته ' لا تصالح'، التي استعار فيها وصية كليب لأخيه الزير سالم كما روتها السيرة الشعبية، تتداول على نطاق واسع ـ إلى جانب أغاني الشيخ ' إمام عيسى' لقصائد ' أحمد فؤاد نجم' التحريضية ـ في إعلام ولقاءات قوى وتيارات المعارضة العربية، كصيحة إصرار على المقاومة حتى تستردّ الاُُُمة كرامتها وحقوقها:
لا تصالح
لا تصالح على الدم حتى بدم
لا تصالح
ولو قيل رأس برأس
أكلُّ الرؤوس سواء؟
أقلبُ الغريب كقلب أخيك؟
أعيناه عينا أخيك؟
وهل تتساوى يدٌ
سيفها كان لَكْ
بيدٍ سيفها أثكلكْ؟
'''
هذا الجيل من الشباب المصري والعربي، الممتلئ بطاقة الغضب واحلام التغيير، هو الذي حال دون تمكين أجهزة وأبواق السلطة من فرض التعتيم على الشاعر العصي على الانسياق الذي قدم إلى القاهرة من جنوب مصر. وتكفلت منابر ودور النشر العربية خارج مصر ـ وبخاصة في بيروت ـ بطباعة أعماله وإيصال صوته النابض بالحرقة إلى حيث يجد من يستمع له ويحتفي به، حتى صار أكثر شعراء مصر في وقته انتشاراً وشعبية، إذا ما استثنينا شعراءها بالمحكية، كأحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الأبنودي، وفؤاد حداد صاحب ' الارض بتتكلم عربي قول الله'، ومن قبلهم ' صلاح جاهين' الذي قوّضت فاجعة هزيمة حزيران ( يونيو) روحه، فتحوَّل من رائعته الخالدة:
'راجعين بقوة السلاح
راجعين نحرر الحِمى
راجعين كما رجع الصباح
من بعد ليلة مظلمة'
إلى تسليته اللاهية:
'خلـّي بالك من زوزو'!
'''
عاش الشاعر الأسمر النحيل، الذي أطلق عليه والده خريج الأزهر، الشيخ ' فهيم دنقل'، اسم ' محمد أمل' عند ولادته في العام 1940م، عمراً قصيراً، لكنه كان كافياً ليقول فيه كلمته التي أودعها في دواوينه: ' البكاء بين يدي زرقاء اليمامة'، ' تعليق على ما حدث'، ' مقتل القمر'، ' العهد الآتي'، ' أقوال جديدة عن حرب البسوس' و' أوراق الغرفة 8'.
قالها، كصعيدي عنيدٍ آتٍ من أعماق الجنوب إلى القاهرة التي تجاهلته فتجاهلها، وكرَّس صوته لاخوته المقهورين ' الذين يعبرون في الميدان مطرقين'، كما كتب ذات مرة مستعيراً روح ونداء ' سبارتاكوس' قائد ثورة العبيد الشهير في الامبراطورية الرومانية:
'مُعلّق أنا على مشانق الصباح
وجبهتي ـ بالموت ـ محنيَّة
لأنني لم أُحنِها حَيَّة'
وقال كلمته، كمصري عروبي، ليس فقط في مواقفه القومية كتلك التي تحدثنا عنها وحسب، بل وفي تكوينه المعرفي الاول الذي ورثه عن والده وتراث مكتبته الأدبي العربي، وفي ما عبّر عنه في قصائده التي استوحت الشخصيات والقصص التاريخية والأسطورية العربية (عنترة، زرقاء اليمامة، الزير سالم، الزباء، المتنبي ...) لتحميلها مضامينه ورؤاه المعاصرة. فشدّد بذلك على الهوية العربية لقصيدة التفعيلة التي كانت مثقلة برموز وشخصيات الأساطير اليونانية تأثراً بالشاعر الإنجليزي الامريكي ' تي. إس. إليوت' صاحب ' الأرض اليباب'.
هذا التأكيد على الهوية العربية ـ بروحها وملامحها الحضارية الخاصة ـ كان تياراً صاعداً في الستينيات من القرن الماضي، سعى بحماسة إلى ترجمة ذاته في أشكال وأجناس التعبير الادبي والفني المتعددة، مواكبة للنهوض العربي المتأجج في تلك السنوات.
في الغرفة رقم ( 8) في مستشفى ' المعهد القومي للأورام' توقف قلب أمل عن الخفقان ومضى في الحادي والعشرين من شهر أيار( مايو) 1983م.
لكن كلماته واشعاره، لم تمضِ معه..فقد قالها بلسان عربي مبين.
alhalaseh@gmail.com