آن اوان اعلان الدولة الفلسطينية

هل يمكن للحكومة الاسرائيلية ان تظهر بدرجةٍ اكثر وضوحا ان ليس لديها اي نية لتقاسم الأرض الموعودة اكثر من اللازم مع سكانها الآخرين؟
هذا الاسبوع قدمت ادارة اوباما- التي تمنح اسرائيل 3 مليارات دولار سنويا، وهو اكثر مما تقدمه الى اي دولة اخرى على وجه الأرض- طلبا وديعا وجبانا الى الاسرائيليين بالتوقف فقط عن الاستيلاء على مزيد من الأراضي، وأن يجلسوا مع الفلسطينيين. ورد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو على ذلك بصفعة كبيرة ملموسة: الاعلان عن أن 1600 وحدة سكنية جديدة ستبنى على ارض فلسطينية محتلة سيمنع االعرب بالقوة من دخولها. واوضح أنه لن يرخي قبضته حتى عن شبر واحد، معلنا: "حتى اذا أتى (الرئيس الفلسطيني) ابو مازن وقال انه مستعد للتوقيع على اتفاق سلام على الفور، فاننا سنعيد البناء الاستيطاني الى مستوياته السابقة". ما من حل وسط. ابدا.
كيف يبدو هذا بالنسبة الى الفلسطينيين؟ ان قصتهم نادرا ما تفسّر بدون تضليل بحيث انها تبدو مروعة حتى عندما تروى ببساطة. حتى عام 1948، كان الفلسطينيون يعيشون في بيوتهم، على ارضهم- الى ان طردوا فجأة خلال حرب من أجل افساح المجال لدولة جديدة لأشخاص فارين من ابادة جماعية اوروبية وحشية. وقد عاشوا محتشدين ومذهولين على الـ20 في بالمائة من ارضهم التي سمح لهم بالاحتفاظ بها. ولم يردوا الا بالكاد: لقد بكوا وحلموا بالعودة. ثم، في حرب 1967، تعرضت حتى هذه القطاعات الصغيرة للغزو بالدبابات وسرايا الجيش.
ويوما بعد يوم منذ ذلك الحين، تؤخذ الارض الفلسطينية المتبقية وتعطى لمستوطنين متطرفين يزعمون ان الرب اعطاها لهم. وظل الفلسطينيون يراقبون عندما قال رؤساء وزراء اسرائيليون انه ليسوا موجودين- "ليس هناك فلسطينيون"، كما اعلنت غولدا مئير- او عندما وصفوا بانهم حيوانات: مناحيم بيغن وصفهم بـ"وحوش تسير على قدمين"، بينما قال اسحق شامير انهم يجب "ان يسحقوا كالجنادب...وان تحطم رؤوسهم بالصخور والجدران". وقد حاولوا المقاومة بشكل سلمي، مطلقين برنامجا من الاعتصامات والعصيان المدني. ورد اسحق رابين باعطاء الاوامر للجيش الاسرائيلي بـ"كسر عظامهم". وبعد عقود من هذه المعاملة، ردوا عن طريق العنف- وبعض ذلك كان موجها بشكل مريع وغير مقبول الى مدنيين اسرائيليين.
وحتى اليوم- بدعم نشط من حكومات في العالم الغربي- يعيش الفلسطينيون في قبضة طوق عسكري دائم. وهم مقسمون الى قسمين. قطاع غزة محاصر من جميع الاتجاهات، وسكانه البالغ عددهم 1،5 مليون نسمة مسجونون في متاهة اسمنتية مكتظة آخذة بالانهيار بحجم جزيرة وايت. ومنذ نحو ثلاث سنوات يجري خنق اساسيات الحياة ببطء، في عملية وصفها مسؤول اسرائيلي ضاحكا بأنها "وضع الفلسطينيين في حمية". وتشمل المواد التي منعت من الدخول المعكرونة وكتب التمارين للاطفال. وكشفت الامم المتحدة ان 70 في المائة من الغزيين يعيشون على اقل من دولار واحد يوميا، وأن 60 في المائة ليس بوسعهم الحصول يومياً على مياه نظيفة. وفي كل مرة اذهب فيها الى هناك، اظن ان الأمر لا يمكن ان يصبح اسوأ، ولكنه كذلك. لقد كانوا معتادين على استخدام السيارات. اما الآن فهناك الحمير.
وفي الضفة الغربية، ما زالت سرقة الاراضي مستمرة. ولحماية المستوطنين وبرنامجهم القاضي بالاستيلاء على الارض الفلسطينية، هناك بنية تحتية عسكرية ضخمة، مكونة من نقاط تفتيش وعمليات بحث عشوائية وطرق للمستوطنين فقط. ويعرض الصحافي ريتشارد بين كريمير، الحائز على جائزة بوليتزر، قصة واحدة شاهدها، وهي تقطّر وتحدد نمط الحياة في الضفة الغربية: "احد مدراء المدارس، وهو رجل مسن وقور، يمر من نفس نقطة التفتيش في طريقه الى المدرسة كل صباح، اجبر على خلع ملابسه- ليس مرة واحدة بل في احيان كثيرة- ليقف عاريا اثناء مرور التلاميذ. وقد وفر هذا مادة دعابة غنية (لجنود الاحتلال).
هناك حل. والجميع يعرفونه: تقسيم الارض. هناك شعبان- الفلسطينيون والاسرائيليون. دعوهم يعيشون في دولتين، في حدود 1967، ومع التعويض الكامل لضحايا 1948. ورغم أن من الصعب قبول مساحات تجريدك من ممتلكاتك، فقد دعمت القيادة الفلسطينية هذا البرنامج منذ 1978، وحتى "حماس"- المجموعة الأصولية البشعة - تقبل به ضمنيا. لكن لم يتم اقتراح هذا الحل للفلسطينيين. ففي كل مرة جلسوا الى طاولة المفاوضات، تمت سرقة المزيد من (اراضيهم): تضاعفت اعداد المستوطنين خلال عملية "أوسلو" السلمية. وتوج ذلك بعرض سلسلة من الكانتونات المجزأة المسيطر عليها اسرائيليا الى الابد- وهو عرض لا يمكن أن يقبل به أي قائد فلسطيني.
وثمة نقاش الآن لا نهاية له. ويتم تحويل مساحات كبيرة من القدس الشرقية الى حدائق "توراتية" وأحزمة استيطانية، ويتم عزل المدينة عن الضفة الغربية. وفي 2008، فقد 4600 فلسطيني أوراق إقامتهم وتم طردهم من المدينة، ويشكلون 20 ضعفا ممن طردوا في العام الذي سبقه.
لوقت طويل، اعتقدت أن ابناء الشعب الاسرائيلي- بما له من تاريخ خاص مليء بالمعاناة التي لا يمكن تصورها- سيغيرون تصرفاتهم من تلقاء أنفسهم، وسيرفضون العيش كسجان أبدي، بعد الزنازين التي احتملوها. و(اعتقدت) أنهم بالتأكيد سيرون ان عملية الخنق البطيء هذه ستجعل الفلسطينيين أكثر تصميما على القتال. وأنهم سيرون أكثر من اي شيء آخر أن الفلسطينيين سيصبحون غالبية في المنطقة بين نهر الاردن والبحر المتوسط بسبب معدلات انجابهم المرتفعة، وأنه لن يكون هناك مستقبل لاسرائيل كأقلية تحكم غالبية فلسطينية مثل فرقة افريكانية في الثمانينيات.
وبينما يوجد بعض الاسرائيليين الابطال الذين يجادلون- مثل غدعون ليفي، ديفيد غروسمان، أوري أفنيري، واعضاء "غوش شالوم" (كتلة السلام)، وأصدقائي من رافضي الخدمة العسكرية- الا انهم قلة بشكل مخيب للأمل. ويبدو ان معايشة أبشع الفظائع لا تجعل المرء متعاطفا، لكن في بعض الاحيان قاسيا ومرتابا. وقد يجعلك ذلك ترى شبح قاتلك حتى في ضحاياك: أدولف هتلر في طفل من غزة. وأفكر في الناجين من التطهير العرقي في رواندا الذين عرفتهم، الذين انطلقوا لنهب الكونغو وقتل الملايين.
لا يمكن للفلسطينيين فعل الكثير لتغيير وضعهم بانفسهم. فهم في الواقع منزوعو السلاح، مع بعض الصواريخ والأطفال الذين يلقون الحجارة، في مواجهة رابع أقوى جيش على الأرض. لكن الضغط الدولي- حين يطبق بذكاء، دون مبالغة- يمكن أن يقويهم، ويفكر الفلسطينيون في خطوة يمكن أن تحفزه. انهم يفكرون في اعلان من جانب واحد للاستقلال، ومطالبة العالم بالاعتراف بدولتهم. ولن يؤدي ذلك الى اختفاء الاحتلال - لكنه سيجعل الوضع واضحا ليراه الجميع. انهم شعب، وهم يستحقون دولة بقدر ما يستحقها البريطانيون أو الاسرائيليون. يتحدث نتانياهو عن خطر محو اسرائيل عن الخريطة، لكن فلسطين تمحى عن الخريطة كل يوم من قبل دباباته وبنادقه. لماذا عليهم أن "يكسبوا" حقهم في أرضهم من خلال اثبات الطاعة لقوة أجنبية عنيفة؟
وتدعم الحكومات الغربية محو فلسطين: الاتحاد الاوروبي من خلال الدبلوماسية وصفقات الاسلحة وتزويد اسرائيل بأكبر أسواقها، والولايات المتحدة بالمال والعملة الصعبة. وسيجبرهم اعلان الاستقلال الفلسطيني على أن يدافعوا عن مواقفهم للناخبين أو يغيروها. وقد لمح وزير الخارجية الفرنسي بيرنارد كوشنير بالفعل الى أنه يشعر بالالتزام لدعم هذا الاعلان. وهل سيستخدم اوباما قرار النقض ضد اقامة دولة فلسطينية في مجلس الامن؟
ان نتانياهو مذعور بشكل واضح. ففي المفاوضات سيلتقي زعيم دولة مع آخر- بدلا من المستجدي المنكسر مع سيده. وقد أعلن بغضب أن الفلسطينيين سيواجهون "عواقب" اذا اختاروا هذا الطريق، بما في ذلك ضم الكتل الاستيطانية. ورد عليه رئيس المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات قائلا: "ان الهدف من هذه الخطوة هو ابقاء الامل حيا... لقد سئمنا من تضييعك للوقت. ولا نعتقد انك تريد حقا حل الدولتين".
يريد الفلسطينيون الحرية ذاتها التي تاق اليها اليهود- (يريدون) وطناً آمناً لهم. وعليهم ان يعلنوا استقلالهم. وبعدها يعود الامر لنا- المليارات من المراقبين- للضغط على حكوماتنا لتحقيق الامر، بدلا من العواء في الظلام".
*كاتب بريطاني ( صحيفة ذي انديبندنت ) .