أيّ عالم وأيّة قَرْية؟؟

 من قالوا ان العالم قريتنا وقعوا فريسة وهم العولمة في اشد ابعادها تضليلا ، اذ لا يوجد في التاريخ كله قرية يعيش اهلها مثل هذا التفاوت اقتصاديا وتكنولوجيا وثقافيا ، ولو قيل لعربي من جزر القمر ان تمثالا للنحات جيوكويتي بيع في مزاد قبل شهر بخمسة وستين مليون جنيه استرليني لأصابه الدوار خصوصا اذا تذكر ان هذا المبلغ يزيد عن ميزانية بلاده بعشرين مليون جنيه استرليني على الاقل.

ولو قرأت عجوز عربية في قرية لم تصل اليها الكهرباء بعد ، أن امرأة في عمرها حصلت على تعويض قيمته سبعة ملايين يورو لان النادل في احد المطاعم سقط من يده اناء الحليب الساخن واصاب يدها ببعض الحروق لأصيبت بالاغماء ، وهي التي تحتفظ في ذاكرتها المجعدة بعشرات بل آلاف الوقائع التي لم يحصل من سُحقوا لهذا السبب او ذاك على دولار واحد على سبيل التعويض.

نستطيع ان نسرد قائمة طويلة بالفروق عبر كل تفاصيل الحياة بين بلدان هذا العالم او ما يسمى حارات هذه القرية لكن تقارير التنمية وما يعقبها من تقارير الانيميا تولت مثل هذه المهمة ، ما دام هناك عرب لا يزيد دخلهم عن دولار واحد في اليوم واحيانا بضعة سنتات لا تكفي لشراء رغيف او علبة سردين انتهت صلاحيتها.

في خمسينيات القرن الماضي سخرت سيمون دوبوفوار ممن كانوا يقولون ان الانسان وصل الى القمر ، وكانت تتساءل في حيرة.. اي انسان هذا؟ هل هو الافريقي الذي مضغ اسماله جوعا ام البنغالي ام الصومالي؟ ان صيغ التعميم رغم ظاهرها الانساني تخفي تضليلا مبرمجا ، يوحي بالمشاركة والمساواة والتجانس ، وحقيقة الامر ان الهوة السحيقة بين اغنياء العالم وفقرائه ، لم تكن ذات يوم بهذا الاتساع ، ورغم كل ما يقدمه الشمال الموسر الى الجنوب المعسر تبقى المسافة غير قابلة للقطع بأحدث طائرات عصرنا.

وسبق للفيلسوف الامريكي هربرت ماركيوز وهو من اهم منظري ثورة مايو عام 1968ان الف كتبا منها الانسان ذو البعد الواحد ، افتضح فيه المساواة الكاذبة في امريكا ، وقال ان الميديا المضللة توهم سكرتيرة في شركة او موظفا في مصنع سيارات بان له الحقوق ذاتها التي يتمتع بها رئيس الجمهورية ، لكن هذه الحقوق ممنوعة من الصرف ،

وسوف يكتشف الموظف بانه اذا لم يستطع تسديد اقساط سيارته وثلاجته وحتى مكنسته الكهربائية انه معروض في المزاد.

وما يبدو قواسم مشتركة بين الشعوب في هذا الكوكب ليس في حقيقته الا الطلاء السطحي للواقع ، اما باطن الامور وما تخفيه الكواليس والاكمات فهو يصيبنا بالرعب ، خصوصا اذا اطلعنا على الارقام ، فلا متوسط الدخل ولا متوسط العمر ، ولا اية استحقاقات للمواطنة يتشكل منها سياق كوني يتيح لنا ان نقول بان هذا العالم هو قريتنا.

ولا يشبه هذا الوهم الذي ادمنه الفقراء والتابعون والعالقون الا المصطلحات الجديدة التي نحتتها الرأسمالية في ذروة توحشها لايهام الضحية بالشراكة ، او تسمية العلاقة بين التمساح والطيور الصغيرة التي تنظف اسنانه تحالفا نديا.

ما اصعب ان يكون التجهيل مهمة علمية بامتياز ، وما اقسى على الانسان من ان يقبّل ويلحس السّوط الذي يجلد به،،