عابر حياة - بعض الفهم!!

حين ندعو إلى التغيير بتبني تيارات نروّج لها في سياستنا ولا نوضح ما نعني بها، فإننا نستفز شرائح مجتمعية مختلفة منها فئة الشباب (إحساس مغرق في المبالغة)، والتي بتكرار سماعها أننا أمام تطور ديموقراطي أو انفتاح ليبرالي قد تشعر بتهديد موجّه لدينها وتراثها نتيجة عدم إلمام كاف بماهية مفردات غير عربية، لا تعرف من معناها سوى تخمينها الذي استقصته من السياق العام الذي وردت فيه، لتكتشف لاحقاً أن اجتهادها لم يكن دقيقاً لعدم تطابقه مع سياق غيره، فتقع في حيرة.
لا أظن أن عمر الشباب الغض بفورتهم الداخلية وقلة خبراتهم الحياتية ووعيهم الثقافي يؤهلهم لفرز الأمور بشكل عقلاني، أو السعي للبحث في معاني المصطلحات بعيداً من عنف أو استخفاف، ما يجعلهم نهباً لمن يأتي فيقنعهم بمنطق مؤَّيد بأدلة شرعية وظِّفت في غير مكانها عن عقيدتهم التي تنتظر تحركهم للدفاع عنها. إنها مرحلة غسل الأدمغة وتليها مراحل!
فما هي الديموقراطية؟ تاريخ بداياتها لم يقم على أنها حكم إشراك الغالبية والأخذ برأيها، فالمجتمع اليوناني الذي أوجدها كان تسعة أعشار شعبه من طبقة عبيد لا تحكم، ما يعني أن الحكم كان بإرادة عشر واحد من الشعب وهم طبقة الأحرار، ولم تمثل الديموقراطية معاني كالإخاء والمساواة بين المواطنين إلا بقيام الثورة الفرنسية. وعند ظهور الدعوة للاشتراكية في أوائل القرن الماضي (حاولت بعض بلادنا الأخذ بنظامها منذ الخمسينات لتثبت التجربة أن التطبيق لم يأت بالمتوقع) وقف من يقول إن الإخاء والعدالة بين المواطنين لن يتحققا إلا بتوافر المساواة الاقتصادية، ليتم ربط الديموقراطية السياسية بالديموقراطية الاجتماعية وللمرة الأولى. فإذا تركنا الديموقراطية والاشتراكية في حالهما والتفتنا إلى الليبرالية، سألنا عن حدود تحررنا بحيث ندَّعي الليبرالية ولا نكون تجاوزنا سقف الإسلامية!
الليبرالية الغربية متعلقة بحرية الأفراد في المجال السياسي، فلا تجمّع ولا مركزية، وحين شرح أندريه فيسنسكي (كان وزيراً لخارجية الاتحاد السوفياتي) معنى الليبرالية قصد بها الدولة الحرة في مواجهة أفرادها، فالحاكم هو الحر وليس الشعب، ومن هنا تجد الحرص أحياناً يطل برأسه في بلادنا ليؤكد على «الديموقراطية الليبرالية». وبالرجوع إلى كتابنا وسنتنا نجد أن الحرية تقع بإقامة التوازن بين حرية الفرد وحرية المجتمع، وهي لا تنفصل عن مفهوم العدالة، الذي ليس بالضرورة أن يكون حاضراً في توجهات الرأسمالية الغربية، بدليل أن المنظمات الدولية عند فرضها لقيود الحرية الاقتصادية لا تلتفت في المقابل وبشكل كاف لموضوع العدالة.
حين وصف رفاعة الطهطاوي حرية باريس قيّد مرجعيتها بالتحسين والتقبيح العقليين. والإسلام لا ينفي المرجعية العقلية لكنه يضيف إليها المرجعية الشرعية أيضاً، كما أن حرية النظرة الإسلامية إنما تسع التيارات الفكرية، بل تطالب بالتعددية الفكرية بما فيها الفكر الليبرالي. ومن حقنا كمسلمين الاجتهاد في موضوع الليبرالية فلا تبقى على صورتها الغربية، وليس على الغربيين أو الليبراليين أن يحرِّموا علينا حقاً مكفولاً، فالليبرالية أقدم من الإسلام (جاءت كثمرة للديموقراطية اليونانية بمفهومها التقليدي)، والإسلام أكثر حداثة في تطوره الزمني من اليونان، وعليه، تظل حضارتهم من الثراء والتجارب ما يدعونا للاستفادة منها بحسب ما يناسب طبيعة مجتمعاتنا، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب يكتفي بتدوين الدواوين من الرومان ولا يأخذ بالقانون الروماني! (الحياة)