انهم يأكلون لحم موتاهم !!

المدينة نيوز - اذا كانت النميمة هي اكل لحوم الاحياء فان استغلال غياب الموتى هو اعادة قتلهم وبالتالي التنافس مع الدود على لحمهم ، ولا ندري كيف يمكن لنا ان نجد مقتربا لهذه الظاهرة دون ان نقع في جملة من المحظورات ، فمن ماتوا سواء كانوا زعماء او شعراء او حكماء ، سرعان ما بدأ الاحياء بقضم اصابعهم حتى لو كانوا من الورثة ، حدث هذا مرارا الى الحد الذي دفعنا ذات جنازة كبرى الى القول بان هذا التعظيم للوداع هو للتأكد من الرحيل ، وكانت المناسبة غياب الزعيم عبدالناصر ، الذي قبل ان يجف ماء الوداع عن قبره وجد من يحاكمه ، ويعدد اخطاءه ويحول ما كان فضائل في حياته كالسد العالي ومصانع الحديد والصلب ، الى رذائل ، وكان من اوائل آكلي لحم الميت هم الاقرب اليه ، ومنهم من قيل انه عموده الفقري كان ليّنا ورخوا من فرط الانحناء في حضرة الرجل وهو حيّ ، والموتى لا يستطيعون الدفاع عن انفسهم الا بما تركوا فان كانوا قادة او ساسة يكون الاحتكام الى ما انجزوا وما اخطأوا او اصابوا لانهم بشر قبل اي شيء اخر ، وان كانوا كتابا ومفكرين وشعراء فان اعمالهم هي التي تذود عنهم ، لهذا كتب سارتر عن كامو بعد موته بحادث سيارة ان هذا المثقف كان ينتشل نفسه من القبر والنسيان بكل كلمة كتبها ، رغم انهما كانا على خلاف شديد في كل شيء ، وبدلا من ان يوقظ موت الخصم ، الشماتة ، ايقظ الفروسية والمناقب لدى الوريث الحي والامين،.
ما سرّ هذه الجرأة على الموتى؟ وهل كانت مهابتهم وهُم على قيد الحياة تحول دون ان يستنسر بغاث الطير.. ويصبح القط اسدا او فهدا لمجرد ان ينفض عن كتفيه غبار الدفن؟.
لو كان الشامتون من المخلّدين ، لكان لهم الحق في التعبير عن فرحتهم بغياب الاخرين سواء كانوا خصوما او اشقاء ألداء ، لكن الجميع فانون وعابرون ، ومن لم يمت حتى الآن هو الذي سيموت حتما في الغد او ما بعده ، لان الموتى لا يموتون.
ويبدو ان هذا النمط من ثقافة النميمة والوشاية والتشفي حتى بالموت ترسب من عهود كان الانسان فيها يتوهم بانه محور الكون والوجود وكان مخدوعا بحيث يستثني نفسه من الموت: فالشقاء والمرض والكوارث كلها هي من حصة الاخرين ، لكن اعمى البصيرة هذا يظن بانه معصوم من هذه المصائب وان الشمس تشرق من اجله وحده فقط ، وانها عشية غيابه ستكف عن الشروق.
قليلا من الفروسية والتعفف يا آكلي لحوم موتاهم ، فأنتم واقفون في الطابور وسوف يصلكم الدور ، ولأنكم جعلتم من أكل لحوم موتاكم امرا مشروعا ومألوفا فأنتم
على موعد مع من سوف يمتص نخاعكم ، ونادرا ما نجد في العالم كله اناسا ينتظرون غياب خصومهم كي يصفوا معهم حسابات قديمة ، وان وجد مثل هؤلاء فان الناس يتصدون لهم ، ويدافعون عن هؤلاء الصامتين الى الابد الذين لا حول لهم ولا قوة ، قد تكون هناك مناسبة محدودة لهذه التداعيات لكن الامر اشمل من مناسبة لأن اقرب الى الظاهرة بعد ان اصبح تكراره مألوفا بعد كل رحيل.
اين كان هؤلاء عندما كان الغرماء والخصوم احياء؟ ولماذا تتحول الدجاجة الى ديك فصيح لا يكف عن الصياح عندما يختطف الموت الخصوم؟ ولم اشأ ان احدد ميتا تحول لحمه الى وليمة ، كي يكون هذا الدفاع شاملا لكل من ملأ التراب افواههم،،.