الأنظمةُ فاسدةٌ.. وكذلك شعوبها
المدينة نيوز - من غيرِ المعقولِ أن تظلَّ الشعوبُ العربيةُ تطحنُ في طاحونةِ الكلامِ توصيفَ أنظمتِها السياسيَّة بالخيانة والأوتوقراطيَّةِ، وهي نفسُها غارقةٌ في نعيمِ الكسل والتراخي والتخلُّف؛ ما كان منه فكريّاً ودينيّاً واجتماعيّاً.
إنَّ التحدُّثَ عن الديكتاتورية ولا أسهل، وكذلك عن سرقة ثروات الأمة ومستقبلها، ما دام الأمرُ لا يكلِّفُ سوى تحبيرِ صفحةٍ أو ملء فراغٍ في منبر، وشدِّ الصوت عالياً. بينما آخرُ ما يحدث أن يتداعى أصحابُ الشكوى وصاحباتُها إلى تحرُّكٍ إيجابيٍّ، أو أن يسلكَ هؤلاءِ في أضيقِ محيطٍ سلوكَ الرَّحابةِ في التفكيرِ الحُرِّ، وقبولِ الآخرِ والأخرى، واحترام الرأي مختلِفاً ومبايِناً، وطهارةِ الجيبِ، ونظافةِ الرِّبحِ، وأداءِ الواجبِ المأجورِ وغيرِ المأجور كاملاً.
بعبارةٍ أخرى، أن تكونَ الشُّعوبُ التي لا تكفُّ عن البكاء، ورموزُها التي لا تكفُّ عن الشكوى، هي نفسُها ملتزمةً بإصلاحِ ذاتِها، قائمةً في واقعِها على قِيَمِ الصلاحِ والإصلاحِ والديمقراطيَِّةِ والحريَّةِ التي تناشدُ أنظمتَها من أجلها. ففي خضَمِّ التوصيفِ السَّلبي للحُكمِ، وإيلائِهِ كلَّ النَّقدِ والهجوم، ننسى أن نلتفتَ إلى أنفسنا وما تفعلُ، وإلى ممارساتِنا وإلى أين تمضي بنا وبالأوطان. وكأنَّ حالَنا منفصلةٌ عما يجري في رأسِ الهرمِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ. أو كأنَّ هذا النظامَ الفاسدَ أو ذاك معنيٌّ أن يُنّظِّمَ حياةَ الناس، أو يرعى عناصرَ الخيرِ فيها.
من المهمِّ طبعاً أن يتشكَّل رأيٌ جماعيٌّ في السُّلطة السياسيَّةِ، وإجماعٌ على أدائها. فذلك يعني أنَّ تحرُّكاً هائلاً قد حدث في باطن الشعوب حتى آلتْ إلى موقفٍ واحدٍ متماسكٍ منسجمٍ. ولكنَّ ذلك لا يكفي، ولا يجوز أن تتوقَّف الشعوبُ عنده. فإذا توقَّفت كانت حالُها كحالِ تلكَ الأنظمةِ.
وما لم تتجاوزْ حالَ الشكوى والقولِ إلى أن تفعلَ بنفسِها ولنفسها شيئاً ينسجمُ مع ما تنزعُ إليه أفكارُها هذه، فلن يتغيَّر أمرٌ، وستبقى الأنظمةُ الضَّعيفةُ الواهنةُ والمستبدَّةُ في آنٍ قائمةً مستمرَّةً، لا يتهدَّدها شيء؛ فليستْ قوَّتُها إلا من ضعفِنا، مثل أنَّ قوةَ إسرائيل من ضعفِ بني يعرب.
ومِثالُ ما أنزعُ إليه، أنَّ الفردَ منا ينزعجُ إذا ما حُجِبَ عنه تعيينٌ أو ترقيةٌ في غيرِ وجهِ حقٍّ، ولكنَّه كم يكون مُرحِّباً لو حصلَ بالوساطة على منفعةٍ غيرُه بها أحقُّ. وهو سرعانَ ما يشتمُ الحكومةَ أنها تضيِّقُ على الحريَّات، في حين أنَّه لا يمانعُ ويريدُ ويسعى إلى أن يُلزمَ الناسَ قاطبةً بالرأي الواحدِ والأيدولوجية الواحدة تحتَ مسميَّاتٍ ذاتِ سطوةٍ اجتماعيةٍ لا تتورَّعُ أحياناً عن التكفير وهدر الدماء. بل ويربّي أبناءَه وبناتِه على التسلُّطِ أو الخنوع، وعلى إلغاءِ العقلِ، والتحلُّلِ من سلطةِ الضمير، بما يضربه من مَثَلٍ فاسدٍ لهم. ولمَ إذن أيضاًً هذا التغوُّل الذي نراهُ في الخطابِ المحافظِ بينما الداخلُ مهترئُ القِيَمِ، متهالكُ النَّسيج؟ وكأنَّما الإخلاصَ في العمل والتفاني في إتقانه ليسا من شأننا كأفراد! وإلى أيِّ شيء تحتاجُ الأفرادُ حتى يكونَ أداءُ أبسطِ الواجبِ مُمكناً؟ وهل من المستحيل تِقَنيّاً أن يؤدِّيَ المعلمُ – مثلاً- رسالته في التعليم الصحيحِ والسليم إن لم تكن له نقابةٌ أو راتبٌ مجزٍ؟ هذا لا يعني بطبيعة الحال المساومةَ على حقوقِ المعلمين التي نسلِّم بها مثل أيِّ حقوقٍ أخرى. ولكني أتمنى فعلاً لو ينشأ ضميرٌ جمعيٌّ، مثلما لدينا موقفٌ جَمْعِيٌ من الأنظمة، يحاسبُ أنفسَنا على التقصير والتهاون والتراخي والفساد والإرهاب الفكريِّ والنفسي الذي نمارسه، وبمنتهى الأريحيَّة، ونحن نعلِّق مساوئَنا على شمّاعة الحكومات!
