فساد منهجي

المدينة نيوز - هناك تجربتان على الاقل تغريان بتكرار احداهما على واقعنا العربي ، الاولى لفيلسوف انجليزي قرر ان يقرأ ما كتبه المؤرخون على انهيار وفساد الامبراطورية الرومانية في خريفها ، والثاني كاتب انجليزي ايضا عرفه العالم من خلال رواية شهيرة بعنوان 1984 هو اورويل.
في التجربة الاولى اتضح للفيلسوف ان الاسلوب الذي كتب به معاصروه عن سقوط الرومان كان يعاني من السقوط ايضا ، وكأن جرثومة الفساد والعطن انتقلت من المجلدات القديمة والمتاحف لتصيب من يكتب عنها ويحللها اما اورويل فقد وجد ان المقالات السياسية التي كانت تكتب في اربعينات القرن الماضي تصلح نموذجاً للرداءة والفساد اللذين تتصدى لنقدهما ، واذا كان الواقع فاسداً فان العدوى انتقلت ايضا الى الشهود على هذا الفساد فتحولوا الى شهود زور.. ولو جرب باحث عربي له صلة بعلمي النفسي والاجتماع ان يفحص عينات من اساليب معالجة التخلف والفساد في الكتابات المعاصرة ، لوجد ان الجرثومة قد انتقلت ايضا ، لتصيب عدواها من يتوهمون بانهم خارج مدارها او ملقحون ضدها، فالتقدم والتخلف والنزاهة والفساد والديمقراطية والديكتاتورية مناخات قبل اي شيء آخر ، وما ان تصبح مبثوثة حتى نتحول الى اوبئة ، ويجب اعلان المناطق او المجتمعات التي تغلغلت فيها الجرثومة مناطق منكوبة ، لكن العالم لا يعترف حتى الان بغير ما يلامسه باليد وما يراه بالعين المجردة ، رغم ان أوبئة الفساد والتخلف اشد نفوذا وتدميراً من الزلازل والأعاصير.
اليست مفارقة ان تقرأ مقالات وتعليقات تبشر بالديمقراطية وتحرض على الحوار ثم نكتشف منذ السطر الاول ان هذه الكتابات مضادة للحوار والديمقراطية؟ وكيف يمكن لمثقف في آخر العقد الاول من القرن الحادي والعشرين ان يبدأ مقالة بعبارة مما لا شك فيه او مما لا يختلف حوله اثنان، رغم انه ما من امر جدي لا يختلف فيه الواحد مع نفسه ان المناهج والمقاربات والاساليب تفتضح ذهنية من يمارسونها اذا كان هدفهم نقد السائد ، فهم من حيث لا يعلمون يحملون الداء ذاته ، وهكذا يصح عليهم المثل الشعبي الاسكافي حافي او النجار مخلعة أبوابه.. ويبدو ان الافلات او النجاة من الفساد والانحطاط عندما يتحولان الى وباء أمر شبه مستحيل واسوأ ما نتورط به الآن هو معالجتها بالتي كانت هي الداء. فالاطباء اشد نحولا واعياء من مرضاهم.
وما كان يسمى نهر الجنون في الحكاية القديمة عن بلدة شرب اهلها كلهم من نهر الجنون باستثناء واحد ، ثم وجد ان نجاته الوحيدة هي في التخلي عن الرشد والشرب من الماء ذاته ، اصبح الآن الماء الذي يجري في كل انابيب هذا العالم وكل ما يأتي من الصنابير والحنفيات هو من سلالة ذلك الماء ، والى ان يجازف احد الباحثين في الكشف عن امراضنا من خلال الوصفات التي نقترحها على الناس ، سيظل فاقد الشيء لا يعطيه ، ومن ينتظر الغيث من غيمة غبار ، عليه ان يهيئ نفسه للموت من فرط الظمأ،،.