نعم من البحر إلى النهر

التقيت قبل أشهر قليلة ولغرض بحث أعده مع أحد القادة السابقين للحركة الأسيرة الفلسطينية، وهو أحد رفاق ياسر عرفات في محاولة تفجير انتفاضة مسلحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عامي 1967 و1968. ومن بين الأمور التي ذكرها عرضا، ولم تكن ضمن محاور بحثي، حالات الشباب الفلسطينيين الذين جاؤوا من فلسطين المحتلة عام 1948 بمجرد أن حدثت نكسة حزيران يحاولون الارتباط مع تشكيلات المقاومة الناشئة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وذكر لي أسماء لأشخاص قال إنّ قصتهم باتت معروفة ولا ضير في كشفها، وقال إنّ هناك أسماء أخرى لم يحن وقت كشفها.
لأسباب مختلفة تمحورت الحركة السياسية الفلسطينية، ومعها العربية، على التسليم بجعل الضفة الغربية وقطاع غزة هي محور العمليات السياسية. وحتى الفصائل الرافضة لعملية التسوية، والتي تدّعي نظريّا على الأقل، رفض حل الدولتين لم تنج من حصر محور حركتها في الضفة والقطاع.
لا يلحق بحركة "فتح" في هذا سوى حركة "حماس". وليست القضية هنا أنّ الأخيرة بطرحها حل الهدنة طويلة الأمد، (أي الدولة المؤقتة) تقبل ضمنا بهذه التجزئة، ولكن الحقيقة أنّ فصائل العمل الفلسطيني عموما عجزت عن بلورة آلية سياسية لتوحيد حركة الشعب الفلسطيني، بما يضم فلسطينيي العام 1948.
الناظر لمظاهرات يوم الأرض الحالية في الداخل الفلسطيني (فلسطين 48) يجد أن العلم الذي يرتفع هو علم فلسطين، حتى الأعلام الحزبية والفصائلية والأيديولوجية أقل ظهورا مما يحدث في الضفة والقطاع أو مدن عربية. ورغم ذلك لا أحد يطرح آلية لتوحيد حركة الشعب الفلسطيني، وللدفاع عن حقوق العرب في "إسرائيل". قبل سنوات سألت عضوي كنيسيت عربيين، عقب محاضرة عامة عن فرص تكوين صلة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبدا الانزعاج واضحا عليهما، وأجابا أنّ هذا غير ممكن. لم أكن بحاجة لأن أسأل لأعرف أنّ هذا مستبعد، ولكني كنت أرجو أن أحيط تماما بكيف تطورت هذه الفكرة.
إذا كان الكيان الصهيوني يدّعي أنه يمثل كل يهود العالم ويفتح أبوابه لهم، فكيف فشلت الأمة العربية، ومعها القيادات الفلسطينية المختلفة في تطوير معادلة تضمن إعلان حق حماية مصالح هؤلاء؟.
ليس المقصود بالضرورة أنّه كان على فتح وحماس أن تنظما خلايا ومجموعات داخل فلسطين عام 1948، مع أنّ هذا حدث على نطاق محدود خاصة في حالة فتح بعد العام 1967، ولكن من القصور الإعلامي والدبلوماسي والفكري والجماهيري والقيادي عدم القدرة على بلورة خطاب يؤكد أن مواطنة العرب في "إسرائيل" وحقهم في البقاء هناك، لا يعني أن العرب لا يستطيعون التواصل معهم سياسيا وتمثيل مصالحهم.
إذا ما بدا أنّ هناك تسويات سياسية مقترحة تتضمن تقسيما ما لأرض فلسطين في هذه المرحلة، فإنّ هذا لا يعني القبول بتقسيم الشعب الفلسطيني.
أخطر مظاهر التراجع في أداء منظمة التحرير الفلسطينية الآن أنّها لم تعد تعنى بوحدة المجتمع الفلسطيني ومؤسساته ومصالحه وتأطير حركته السياسية في الشتات. ولكن عدم القدرة على طرح خطاب سياسي للوحدة الفلسطينية في أماكن تواجدها الثلاثة: (الشتات وفلسطين المحتلة عام 1967 والمحتلة عام 1948)، خطأ تاريخي قديم.
في وسط حالة الانقسام الفلسطيني ومظاهر الخلل في الأداء السياسي قد يبدو طرح أفكار من نوع بلورة تعريف جديد لفكرة من "البحر إلى النهر" ضربا من الخيال والترف الفكري، ولكن حقيقة أنّ حركة الشعوب لا تتوقف، وأن البدايات الجديدة والكبيرة لا يجب أن تتوقف يعني عدم التواني عن طرح الأفكار التي تتناسب مع المراحل المختلفة، ولا يكون الحل بالتنازل عن الأهداف الكبرى، أو التقوقع في شعارات غير عملية.