العرب في قمة سرت: في انتظار معجزة؟

العلاقة وثيقة بين العجز عن التجديد والاستغراق في الماضي قريبه وبعيده. وتمثل هذه العلاقة أحد المداخل الأكثر ملاءمة لفهم المأزق العربي في تجلياته كافة ثقافية – فكرية وسياسية وغيرها. ومأزق النظام العربي الرسمي اليوم ليس استثناء، هو الذي تعيد قمة سرت العربية إنتاجه. فقد بلغ مبلغه الراهن نتيجة العجز عن التجديد، وحتى النظام الإقليمي الأفريقي (الاتحاد الأفريقي) أصبح أداؤه أفضل نسبياً مقارنة به، ودور كل منهما في أزمة دارفور، مثلاً، شاهد.
وبسبب عجز النظام العربي عن تجديد نفسه، وافتقاده بالتالي رؤية واضحة للمستقبل، لا يجد الباحثون عن مخرج من مأزقه إلا العودة إلى الماضي والرهان على تحسين العلاقات بين مصر وسورية حتى يمكن استعادة ما كان يسمى «المحور» الثلاثي الذي جمع الرياض والقاهرة ودمشق في العقد الماضي وبداية العقد الحالي، وقبل ذلك في مرحلة الإعداد لحرب 1973.
ويعني ذلك ربط الخروج من المأزق العربي الراهن بالعودة إلى مرحلة سابقة يصعب إعادة إنتاجها، وليس بالانطلاق إلى مرحلة جديدة أرقى أو أفضل بعد كسر الجمود الذي اقترن بالعجز عن التجديد. فكان النظام العربي في حاجة إلى تجديد منذ أن هزت هزيمة 1967 أركانه. ولكن الذهنية السائدة في الثقافة حالت دون التجديد الذي كان ملحاً لأنها اعتبرته استسلاماً لا يليق بمن لا يعني الصمود لديهم إلا المحافظة على الأمر الواقع. واكتسب النظام العربي، مذّاك، مناعة ضد التجديد بالرغم من أن «الزلازل» الاستراتيجية التي تعرض لها كانت تفرض تغييراً جوهرياً في مقوماته، وخصوصاً الغزو العراقي للكويت 1990 وتداعياته، والغزو الأميركي – البريطاني للعراق 2003 وما اقترن به من مشروع لتغيير المنطقة.
فكانت مناعة النظام ضد التجديد أقوى من الأفكار والمشاريع التي طُرحت لتطوير بعض هياكله وفي مقدماتها جامعة الدول العربية أو لتحسين أدائه منذ أن صدم الغزو العراقي للكويت بعض الأسس التي قام عليها. فقد بدا لأشهر بعد غزو العراق، أن خوف دول عربية رئيسية من المشروع الأميركي لتغيير المنطقة يمكن أن يضعف المناعة ضد التجديد ويقوّي مركز الداعين إلى تغيير فيه، وتحقيق إصلاح ما. فقد قدمت سبع دول مشاريع لإصلاح الجامعة ومراجعة ميثاقها في ما بين الغزو وقمة تونس (أيار/مايو 2004) التي أقرت وثيقتين كان ممكناً أن تفتحا الباب صوب مرحلة جديدة في مسار النظام العربي. ولكن الوثيقتين، اللتين وضعتا مبادئ عامة لإصلاح هذا النظام ولتحسين الأوضاع في الدول الأعضاء، سرعان ما حُفظتا في أدراج الأمانة العامة للجامعة بعد أن تجاوزت هذه الدول صدمة الغزو وتبين لها أن المشروع الأميركي للتغيير يشبه نمراً من ورق.
غير أن هذا المشروع، الذي افتقد الواقعية فلقي فشلاً سريعاً، لم يترك المنطقة على حالها. فقد فاقم الاضطراب الكبير الذي خلقه غزو العراق، وفتح الباب أمام تغيير في موازين القوى الإقليمية. وأصبحت إيران أقوى من ذي قبل بعد أن تحول الحاجز العراقي أمامها معبراً لهذا النفوذ. كما صارت أكثر جرأة واستعداداً للتمدد في فراغ إقليمي كان استمرار جمود النظام العربي أحد أهم عوامله. وكان طبيعياً أن يشتد مأزق هذا النظام ويزداد الاضطراب في علاقات أعضائه. وكان تدهور العلاقة بين السعودية ومصر من ناحية، وسورية من ناحية، أهم تجليات الاضطراب. فالعلاقة الإيجابية بين هذه الدول الثلاث هي ما حفظ توازن النظام العربي نسبياً إزاء «زلزال» غزو للكويت وتداعياته التي تراكمت وصولاً إلى الغزو الأميركي للعراق. ولذلك تبدو هذه العلاقة، التي يسميها كثير من العرب «المحور» الثلاثي، هي الحالة الأفضل على الإطلاق في تاريخ نظام إقليمي جُبل على الانقسام ربما لأنها لم تكن موجهة ضد «محور» عربي آخر، أو هكذا تبدو بالنسبة إلى المولعين بها، فضلاً عن أنها تعتبر جزءاً مهماً مما تختزنه الذاكرة العربية عن حرب 1973.
وبغض النظر عن تكييف تلك العلاقة الثلاثية، وتقييم دورها في هذه المرحلة أو تلك في مسار النظام العربي، فالمهم هو أنها أصبحت تاريخاً انقضى، وبالتالي لا يمكن استعادته لأن الظروف التي أنتجتها أو جعلتها ممكنة تغيرت. وحتى إذا نجحت الجهود المخلصة التي تهدف إلى تقريب الفجوة بين مصر وسورية أو تحقيق مصالحة بينهما، وخصوصاً تلك التي تقوم بها القيادة السعودية، فليس ممكناً إعادة إنتاج الحالة التي أدت فيها العلاقات بين الرياض والقاهرة ودمشق دوراً مميزاً في النظام العربي. فلا توجد علاقة ميكانيكية بين تصحيح العلاقات الثنائية بين هذه الدول الثلاث وتوجهاتها في شأن قضايا النظام العربي. كما أن العلاقات الثنائية بين مصر وسورية قد لا تعود إلى ما كانت عليه قبل أن يتصاعد الخلاف بين الرياض والقاهرة من ناحية ودمشق من ناحية ثانية عقب اغتيال رفيق الحريري عام 2005 ويبلغ مبلغ الأزمة إبان وبعيد الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006.
لقد جرت في نهر العلاقات بين هذه الدول، كما بين سورية وإيران، مياه كثيرة يصعب نزحها. وعلى رغأن العلاقات السعودية – السورية استعادت الكثير من دفئها السابق، بما في ذلك على المستوى القيادي، فليس سهلاً أن يحدث مثل ذلك في العلاقات المصرية والسورية وخصوصاً على المستوى القيادي لأن «الكيمياء» الشخصية تؤثر تأثيراً كبيراً في سياسات الدول، وخصوصاً تلك التي يتمتع حكامها بسلطات واسعة.
وهذه «الكيمياء» ليست محض شخصية، لأنها تتعلق بالذهنية وطريقة التفكير والتوجه السياسي. لذلك ليس متوقعاً أن يحدث تغير جوهري في هذا الجانب المؤثر سلباً الآن بقوة في العلاقات المصرية السورية حتى في حال انتقال السلطة في القاهرة إذا تحدثنا عن مستقبل غير منظور الآن.
كما أن أولويات علاقات سورية الإقليمية تغيرت، ليس فقط بسبب صلاتها التي تعمقت مع إيران ولكن أيضاً نتيجة اهتمامها الفائق بالتقارب مع تركيا. وإذا أضفنا إلى ذلك أن المنطقة في مجملها صارت مختلفة عما كانت عليه في تسعينات القرن العشرين، يصبح الرهان على استعادة «المحور» الثلاثي في غير محله. وإذا كان هذا الرهان على حالة سابقة يعود إلى غياب الأمل بحالة مستقبلية لا محل للتطلع إليها من دون تجديد مازال بعيد المنال، يبدو العرب في وضع يستحق الشفقة حيث لا مستقبل يرنون إليه ولا قدرة في الوقت نفسه على إعادة إنتاج شيء إيجابي من الماضي. فكأنهم ينتظرون معجزة لا يعرفون كنهها ولا من أين يمكن أن تأتيهم. (د. وحيد عبدالمجيد- "الحياة")