فلسطينيو 48 ومنظمة التحرير

قرأت باهتمام الطرح الذي عرضه الدكتور أحمد جميل عزم، في مقاله "نعم من البحر إلى النهر" في عدد "الغد" الخميس الماضي، إذ دعا عمليا إلى توحيد الشعب الفلسطيني تحت مظلة فلسطينية واحدة، معتبرا أن عدم تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية لفلسطينيي 48 كان خطأ تاريخيا، وآمل أن يسمح لي الدكتور أحمد بمناقشة فكرته التي تدخل في اطار الاجتهاد في الرأي.
بداية من الضروري التأكيد على أن الحدود السياسية التي تقطع أوصال الوطن الواحد أينما كانت في العالم، لا يمكنها أن تقطعه في داخل نفوس ووجدان أبناء الوطن، وهذه حقيقة تسري على الشعب الفلسطيني، وعلى شعوب العالم التي ابتليت بهذا، وفي حالتنا نحن فإن واقع حال فلسطينيي 48 يقول كل شيء.
إن اي اجتهاد يحتاج لقراءة واقعية للظروف كافة التي أنشأت الحالة ذات الشأن، وفي حالتنا الفلسطينية فإن أي اجتهاد سيطرح يجب أن يكون مرتبطا بتاريخ النكبة الفلسطينية وما أفرزته، وصولا إلى حالتنا اليوم.
وما نشأ في العام 1948 والتطورات اللاحقة أظهرت مدى استحالة تحرير الوطن الكامل، وهذا ما استدركته الغالبية الكبيرة جدا من الشعب الفلسطيني، وما قبلت به منظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة مبكرة، وهذا الاستنتاج السياسي لم يلغ حقيقة الوطن الواحد، لا في أجيال النكبة ولا أجيال اليوم، لا في الشتات، ولا في "شطري البرتقالة"، مناطق 1967 و1948.
ولاحقا توصلت إلى هذا الاستنتاج، ولو بصيغة أخرى، حركة حماس، ويخطئ من يقارع حركة حماس من هذه الزاوية، خطأ جسيما، خاصة من بين خصوم حماس الذين تبنوا هذا الاستنتاج منذ عشرات السنين، لأن هذا فهم للواقع، وفهم لمهمات المرحلة، واختيار المسار الذي يضمن لك شروط الحد الأدنى من الاستمرار والبقاء، وكلنا نعي حقيقة أن المستقبل مليء بكل أنواع التطورات.
من ناحية أخرى، فلاستدعاء منظمة التحرير الفلسطينية لتمثل فلسطينيي 48، يجب أن تكون هناك أسباب تستدعي ذلك، عدا مسألة تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وأتمنى أن لا يكون السبب كامنا في قراءة لأداء فلسطينيي 48 على مر 62 عاما، اثبتوا فيها منذ اللحظة الأولى بعد النكبة تمسكهم وتشبثهم بالوطن، وحطموا مؤامرات إسرائيل الواحدة تلو الأخرى وما يزالون، وكلها تصب بهدف الاقتلاع القسري و"الاختياري".
إن أهم انجاز حققه فلسطينيو 48 لأنفسهم ولشعبهم عامة، هو البقاء، وليس مجرد بقاء، بل بقاء وانتماء، ولهذا ليس صدفة أن شعر المقاومة الذي انطلق من عندهم في أحلك ظروف القهر والتنكيل والرعب، كانت في صلبه رسالة البقاء، ليهتف توفيق زياد: "هنا باقون.. على صدوركم باقون "، و"إنا باقون على العهد" و"كأننا عشرون مستحيل في اللد والرملة والجليل".
المشكلة التي نعاني منها يا عزيزي الدكتور عزم، هي أن الشعوب العربية "اكتشفتنا فجأة"، وهناك من يدوّن تاريخنا منذ ظهور الفضائيات، وللأسف فمنا من غذى هذا الانطباع لتبرير وجوده الحديث، ليقولوا إننا بدأنا النضال الآن.
ولكن الحقيقة هي أنه لولا النضال العنيد في سنوات الخمسين والستين، والذي كان واعيا لحقيقة الظروف، لما كنا اليوم هنا، والحكم على تلك الفترة هو بما انتجته، وقد انتجت الاساس لما نعيشه اليوم، وانتجت حقيقة أن البقاء قيمة عليا، ومهمة أساسية لا مساومة عليها ولا تنازل عنها، ليس بقاء دواجن تنتظر الذبح، بل بقاء وانتماء وتربية أجيال تلو اجيال تحمل الرسالة والراية، ولهذا فإن الحكم علينا هو بقدر التمسك بالبقاء والهوية.
ونعتز بأننا تبلورنا مجتمعيا، جزءا لا يتجزأ اطلاقا من الشعب الفلسطيني، ولنا طبيعتنا السياسية، التي نجتهد في تطويرها، ولدينا تعددية كبيرة، فكرية وايديولوجية وسياسية، وبيننا الخصام يصل إلى أعلى مستويات حدته، ولكن في نهاية المطاف فإننا نتوحد تحت مظلة لجنة المتابعة العليا، التي توحد النضال ضد المؤسسة الإسرائيلية وسياساتها على صعيد التمييز العنصري، وعلى صعيد الحرب والاحتلال، وتفاعُلنا مع قضايا شعبنا ليس وليد اللحظة وليس وليد الفضائيات، فعلى الأقل يوم الأرض ولد عندنا لاحتياجاتنا، ونعتز بأنه تحول إلى يوم وطني عام، ولكن الأهم هو أنه بات نموذجا لكيفية صقل النضال والمقاومة الشعبية الواسعة.
إن الارتباط بمنظمة التحرير ما كان سيخدم الأهداف الوطنية لفلسطينيي 48، لا في الماضي ولا اليوم، وهذا ما استدركته المقاومة الفلسطينية في الشتات، وفي مناطق 1967، ومن باب المكاشفة والمصارحة، فإن الحالات الاستثنائية القليلة جدا، لانخراط بعض الأفراد منا في فصائل منظمة التحرير لم يخدم طبيعة المعركة الأساس التي خضناها ونخوضها، وأهدافها تصب بالتأكيد في المصلحة الوطنية العليا.
(الغد)