إصلاحُنا السياسيُّ والغربُ

الإصلاحُ السياسيُّ مطلبٌ شعبيٌّ قديمٌ قِدَمَ الطغيان في بلدانه. ولم نتعلَّمْه بعد أن وضعَه الغربُ (وأميركا تحديداً) على أجندتِه فيما يتَّصلُ بمقايضاتِه الجديدةِ مع الأنظمةِ التي لطالما منحَها التأييدَ والدَّعمَ طويلاً. فنحن – أقصدُ الشعوبَ العربيَّةَ – من اكتوى بنارِ الديكتاتور، ابتداءً من العثمانيِّ إلى القوميِّ إلى الاشتراكيِّ إلى الإسلاميِّ إلى ذاك الذي لا نعرفُ له لوناً ولا طعماً ولا رائحة، إلى الذي قعدَ على قلب الشعب واستمرأ القعودَ هو ونساؤه وأبناؤه، وجعل التوريثَ سُنَّةَ من لا سُنَّةَ له إلا الطغيانُ.
ودخولُ هذا الغربِ على خطِّ مطالباتِنا الشعبية فيما يتَّصلُ بتحديثِ القوانين، ونشرِ قيمِ الديمقراطيةِ والمساءلةِ والشفافيةِ، والإفراجِ عن الحريَّات العامَّة، وإنصافِ المرأةِ ومنحِها حقوقَها الطبيعيَّةَ، وتفعيلِ البرلمانات، ومحاربةِ الفساد... دخولُ الغربِ على هذه المطالبات لا يَعني أن نرتدَّ عنها، أونتنكَّرَ لها، أو نسيءَ الظنَّ بمن يؤيِّدُها أو يشتغلَ عليها مِنّا، على أساسِ أنَّ من حُسنِ النِّضالِ أن تقولَ للغرب "لا". فتلكَ سذاجةٌ ما بعدَها سذاجة!! إذ كيف نتوقَّفُ عن الضَّغطِ على أنظمتِنا لتحصيلِ ما نتمنّى لأنفسِنا من حياةٍ كريمةٍ وحقوقٍ، أو كيفَ نهزأُ بما تُحدِثه الأنظمةُ من إصلاحٍ – على قلَّتهِ وشُحِّه - لمجرَّدِ أن أميركا تضغطُ عليها في هذا الاتِّجاه! ناسين القاعدةَ الذهبيَّةَ "خذْ وطالِبْ".
صحيحٌ أنَّ لا الغربَ ولا أميركا يفعلان ذلك لسوادِ عيوننا، ورأفةً بنا (وإلا لكان الأسهلَ عمليّاً التخلصُ من هذه الأنظمة وتسليمُ البلدانِ إلى شعوبِها !!!)، ولكنَّ الصحيحَ أيضاً أنّه التقاءُ مصالح. فالغربُ إنَّما يروِّجُ لبضاعته ونظامِه السياسيّ، حيث إنَّ الديمقراطيَّةَ في العصرِ الحديثِ على الأقلِّ إنجازٌ غَرْبيٌ. وهو في هذا لا يختلفُ عن أيِّ تبشيرٍ بأيِّ دينٍ، أكان المسيحيّةَ أم الإسلامَ. بل إنَّه لا يختلفُ عن الترويجِ لنظامه الاقتصاديِّ الرأسماليِّ الذي نحنُ عبيدُ سَطوتِه. فالديمقراطيَّةُ بضاعتُه ودينُه، وهو معنيٌّ أن ينشرَها حتماً، وأن يكون ذلكَ مبرَّراً أمام دافعي الضرائبِ وبرلماناتِه، ولكنَّ ذلك ينبغي أن لا يُغمضَ عيونَنا عما سيمرِّرُه في الأثناءِ من سيطرةٍ وتغلغلٍ.
فجوهرُ المسألةِ إذن ليسَ أن نقاومَ أميركا بالتخلّي عن مطالبِنا في الديمقراطيَّةِ، بل أن نستخدمَ الديمقراطيةَ، أو ما تحقَّقَ منها، في التوصُّل إلى تقريرِ مصائرِنا، وصنعِ حاضرِنا ومستقبلِنا، ومساءلةِ أنظمتِنا وعلاقتِها الخَنوعِ بأميركا. وعلى ذلكَ فما من سببٍ وجيهٍ البتَّةَ لتخوينِ منظَّماتِ المجتمعِ المدنيِّ والتشكيكِ في مقاصدِها، لأنَّها تعملُ على نشرِ قيمِ الديمقراطيَّةِ ومبادئِ حقوقِ الإنسان والمرأةِ ؛ فنحنُ شعوبٌ تتوقُ إلى الديموقراطيَّة، وإلى العدالةِ الاجتماعيَّةِ وإلى الإصلاحِ السياسيِّ، وإلى إصلاحِ التعليمِ، قبلَ أن تتسيَّد أميركا العالمَ... وتوقُنا هذا لا يعني أبداً أنَّنا نضعُ أيدينا أو مقاديرَنا في فمِ التمساح.
الغد