اليوم التالي للزفاف

فتح عينيه بتثاقل، لائما نفسه بشدة؛ لأنه نسي في الليلة الفائتة أن يسدل (الأباجور) الخشبي السميك الذي كان سيكفل له ساعات إضافية من العتمة، وضع الوسادة فوق رأسه محاولا تفادي ذلك الصخب الكوني الذي انتشر عنوة في الغرفة فارضا عليه الصحو بقوة الضياء!
أشعل سيجارة معترفا لنفسه انه عاجز عن مقاومتها، متراجعا في الوقت ذاته عن قراره بالإقلاع عن التدخين، مبررا ذلك بأنه المتعة الوحيدة المتبقية له، وبأنه فعل الحرية الوحيد المتاح في حياته الخالية من كل أسباب البهجة.
فكر أن ذلك هو السبب المنطقي الذي يدفع السجناء الى نفث السجائر طوال الوقت كسلوك تعويضي عن حريتهم المفقودة. تساءل إذا كان ثمة سجناء لا يدخنون، واستبعد ذلك انحيازا لنظريته التي توصل إليها كمفتتح ليومه غير الواعد بالكثير، قرر التوقف عن الاسترسال في فكرته مقرا أنها في منتهى الغباء، حاول أن يوجه أفكاره باتجاه أشياء أكثر جدوى. غير أن اليوم الجديد ظل عبئاً ثقيلاً يربض فوق كتفيه. استعاد تلك النظرة الحزينة المقيمة في العينين السوداوين للمرأة التي يحبها من طرف واحد، والتي غابت من دون أن تعرف أن قلبه أصيب بها في مقتل. قرّع نفسه بشدة؛ لأنه كان جبانا ولم يستثمر وجودهما في المكتب ذاته لسنين عديدة، من دون أن يفصح لها عن ذلك البركان الذي اشتعل في روحه على نحو مباغت، خوفا من الصد الذي كان متأكدا انه سيتلقاه، لإدراكه أن قلبها لا يضمر له سوى الود المحايد الذي تفرضه طبيعة علاقة الزمالة، راقبها تلملم أشياءها الصغيرة المنثورة على مكتبها الأنيق، وشارك بقيمة مضاعفة بالهدية التي قدمها الزملاء والزميلات إليها في الحفل الصباحي الذي أقامته اللجنة الاجتماعية لوداعها، بعد أن قدمت استقالتها بداعي الزواج والسفر إلى حيث يعمل عريسها. دموع كثيرة انهمرت حين تعانقت وزميلاتها في ذلك اليوم، صافحته بتأثر قائلة: كنت نعم الأخ والزميل، شكرا على كل شيء! همهم بكلمات بدت له تافهة فيما بعد.
نهض باتجاه المطبخ وأعد لنفسه فنجان قهوة، تطلع نحو الساعة، لم يكترث لتأخره عن العمل. وان ساعة الدوام المثبتة في بهو الدائرة ستشي به لدى الإدارة. عرف أن الزملاء سيستغربون تأخره غير المسبوق، وهو المعروف بدقة التزامه بمواعيد العمل؛ لأنهم يجهلون انه كان ملتزما بإطلالتها الصباحية التي تشبه تفتح شجرة لوز!. قدّر أنهم سيسردون عليه بحماسة تفاصيل حفل زفافها الذي اعتذر عن حضوره متذرعا بأنه لا يحب حفلات الزفاف، وللحق فإنه لم يكذب آنذاك؛ لأنه يكره تلك المناسبات بتفاصيلها المملة المتكررة حيث يدخل العروسان محاطين بالأقارب: نساء بشعورهن المصففة باعتناء مضاعف ومساحيقهن المبالغ فيها، مصطحبات الأولاد بتلك البدلات السخيفة التي تحيلهم إلى رجال صغار يتراكضون بانفعال، فيما تتسابق الصغيرات على الإمساك بذيل ثوب العروس، ورجال متأنقون يتصببون عرقا، يحملون العريس على أكتافهم في مرحلة لاحقة، فيما يُجلسون العروس على كرسي ويرفعونها عاليا تحت وقع زغاريد أم العريس المبتهجة، وهي التي على الأغلب ستحيل حياة كنتها إلى جحيم في قادم الأيام! يتوزع المدعوون على الطاولات، يرقبون العروسين بفضول، وتهمس إحدى المدعوات لجارتها أن العريس (أحلى بكتير!) فيما تنتقد أخرى تسريحة العروس غير الملائمة لوجهها، وتنصب في الزاوية كعكة من عدة طوابق، يقوم العروسان بقطعها وسط تصفيق الحضور، وتضج الموسيقى محرضة الكثيرين على التخلي عن وقارهم منضمين إلى حلقة الرقص المزدحمة بأشخاص سعداء من دون مبررات فعلية.
كان على يقين أن الزميلات سيسهبن في وصف ثوبها الأبيض وتسريحة شعرها ومكياجها المتقن، وسوف يطرين على (الكوافير) الذي أظهر صديقتهن في أحلى طلة، ولسوف تتفاءل العزباوات منهن بكلمة "عقبالك"، وسوف يتطرقن بشيء من الحسد الدفين لوسامة العريس. وسيتحدث الجميع عن (البوفيه) الفاخر، وقد يهمس أحدهم ان الحفل كان مكتظا بالنساء الفاتنات، لكنه كان على يقين أنهم سيواصلون حياتهم في اليوم التالي للزفاف بشكل اعتيادي، وان أحدا لن تجهش روحه بالبكاء لحظة تأمل، ذلك المكتب الفارغ الذي هجرته للتو شجرة لوز مزهرة تتأبى على الذبول رغم أنف الذاكرة الذاهبة الى خريف سحيق!