حراس القلوب وعساس الليل

«ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» إنه لأمر يستحق التفكير، لماذا تخير الله سبحانه وتعالى الثلث الاخير من الليل ليتنزل على عباده بأكرم صفات الإجابة والغفران والقبول! أليس الزمن بيده سبحانه وهو الذي يبارك في الاوقات ويجعل لها خصوصيتها؟
ولكن الله سبحانه وتعالى عالم بقلوب خلقه التي يعتريها الضعف في غفلة عن عيون الناس بينما قد تتظاهر بالقوة والصمود والاستمرارية في معاش النهار، عالم أن الليل يغري بالضعف والانكسار ويفتح كل أشكال المواجع ويذكر بكل الجروح وتنزل فيه النفس من علياء كبريائها الى الارتماء على أعتاب المولى عله يواسي قلوبا لم تجد غيره موئلا بعد ان ضاقت الدنيا وضاقت قلوب الناس، لحظة الانكسار تلك وشد الحاجة هناك لا يعالجها الا الله، حتى لغة الخطاب لا يفهمها الا من يتشاركون في الهم، فالإقبال على الله في الضعف ليس كإقبال القوة وإقبال المضطر غير إقبال اصحاب السعة والله يحب ويرضى من كليهما الا أن عياله من المفتقرين الى رحمته والراغبين به والساعين له والمستمسكين به اقرب تحقيقا ونوالا.
لقد أدرك الخيرة من الصحابة هذا الخلق الرباني وتلك الصفة الرحمانية وأن للقلوب حقوقا في الليل لا تُقضى في النهار وأوقات اختصاص لا يصلح القيام بها في زمن مفتوح، فهناك عاجز ينتظر عونا والناس غافلون في مناماتهم، وهناك يتيم ينتظر كفالة، وأرملة تنتظر جبرا، ومظلوم ينتظر نصرا، ووحيد ينتظر أنسا وفاقد ينتظر مواساة.
لقد أدرك صاحب القلب الوقور أبو بكر هذا الحساسية والخصوصية للقلوب المحتاجة المرهقة التي تتضاعف همومها ليلا فكان لا يأتي الفجر الا وقد زار وآنس وساعد وعاد المرضى وقدم، فلما سمع عمر بأعاجيبه في جبر قلوب الناس واصحاب الحاجات أعلن في حياته أنه لا يستطيع منافسته الى شيء أبدا.
ولكن بعد أن أخلى الصديق موقع السبق جاء عمر ليطلق سنة العسس ليلا.. لا ليتجسس على أحوال رعيته بعين الرقيب المسؤول الذي ينتظر اخطائهم بل بعين المشفق الذي يتحسس حاجاتهم ليقضيها ويكون وسيلة الله الى عباده لجبر قلوبهم.
أليس في الليل رأى ذلك الرجل المفزوع المرتبك بولادة زوجته وهو لا يحسن لها عونا، فجاء بزوجته لتعين المرأة وجلس هو يخفف عن الرجل خوفه وهمه حتى أطل الفجر وأطل الفرج وأطل الصبي؟ أليس هو الذي أحس بكسرة الارامل فقال: «لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن الى رجل بعدي أبدا»؟، أليس هو الذي طبخ للايتام وحمل لهم على ظهره؟! أليس هو الذي أحس ورق لحرمان تلك الزوجة الصبية من زوجها وهو في الجهاد وهي تنشده ليلا فشرع قانونا للدولة ان لا غياب لرجل عن بيته اكثر من ستة أشهر ولو في جهاد؟
هناك ليل حكايات لم تروها قصص العاشقين ولا اذهان المستريحين تحكي لله فقدا وحسرة ولوعة وظلامة وحاجة، فيا لسعد من أسبل الله عليه من صفته الجبار وجعله جسرا لوصول إحسان الله ولطفه لعباده.
عسّوا أيها الغافلون والمتنعمون بالاستقرار ليلا، ففي طرقات الدنيا قلوب ارهقها العنت وأثقلتها وحشة الليل الا من بوابة السماء وأنس بالله وطرق مستديم لبابه.
ان للقلوب حقوقا بالليل لا يقبلها الله بالنهار وحقوقا بالنهار لا يصلح قضاؤها بالليل.
المشردون كثر فاجعل قلبك مأوى لهم والأمر احيانا يقضى بدعوة صادقة متحرقة في ظهر الغيب.
(السبيل 2015-06-29)