تَعْطير الجًيَف!!!

مثلما تخدع المساحيق وعمليات التجميل ضحاياها ، بحيث لا تصغر القلوب والكلى والاكباد أعواما كما يبدو على الوجه ، هكذا يحاول من يستثمرون الهزائم والانحطاط خداعنا ، لكن من خلال ما هو ابعد واخطر من التجميل ، واخفاء والتجاعيد ، انهم يرشون العطر الثمين وذا الرائحة النفاذة على الجيف ، لكن الرائحة الاصلية تنتصر في النهاية ولا يصلح السمسار ما افسده الفقر.
وأسوأ ما تفرزه الكوارث التاريخية وهو اضعاف ما ينتج عن كوارث الطبيعة هو افساد الفطرة وايهام الناس العاديين بأنهم سبب ما جرى لهم ، رغم انهم لا علاقة لهم بما طرأ على مصيرهم وليس لهم ناقة او بعير في القافلة كلها،. وحين تكون الشعوب معافاة وفي ربيعها ، نادرا ما تظهر تلك الاصوات التي تنعق فوق الخرائب وبين سحابات الدخان ، إما خوفا او خجلا او لأن الظرف غير ملائم ، فالوطواط يعرف متى يطير ومتى يمتص دم البهيمة الغافلة ، والافعى تعرف متى تغادر الجحر بعد سباتها اذا ما احست بقليل من الدفء.
ونعيق المنذرين بنهاية العالم وجنازة التاريخ وقبول ما يجري والتأقلم معه بانحناء يجعل الجبين يلامس الحذاء من فرط التقوّس وليونة العمود الفقري لا يملأ الفضاء الا في تلك اللحظات التي يستبد بها اليأس ويوشك ان يتحول الى قنوط ، ما دامت فلسفة الغراب هي "البارحة افضل من اليوم واليوم افضل من الغد" ، هذه المتوالية المضادة للفيزياء والتاريخ والثقافة وكل اشواق البشر هي رهان الكلاب التي ترقص فرحا عندما تموت الحمير ، او فرصة الذباب اذا اصاب الشلل ضحيته فلا يعود قادرا على طرده ، لهذا قد يعشش في اذنيه او يبيض على انفه،.
يغيب عن معظمنا ان دور النخب ليس في السّرّاء بل في الضّرّاء ، لانهم اللقاح والامصال الباسلة ضد عدوى الوباء خصوصا عندما يكون هذا الوباء اخلاقيا وليس عضويا.
ما يحدث في عالمنا العربي هو العكس ، فالنخب اصداء وليست اصواتا ، وظلال وليست منابع ضوء ، تهلل عندما تسمع الشارع يهلل وتنعق عندما تراه هاجعا ومنكفئا على رصيفه وصامتا كقبر.
ما دورها وما هي فاعليتها اذن؟ اذا كانت تحصيل حاصل لما يجري ومجرد ردود فعل وليست افعالا او مبادرات واجتراحات. «البقية 36ص »
ما يصيبنا بالهلع الآن وفي كل اوان ليس ما يحدث لنا من انتهاكات وما يلحق بنا وبمقدساتنا وكبريائنا القومي من اهانات ، فهذا امر عابر في كل تواريخ الامم لأنها تكبو وتقوم ، وتنحسر وتمتد وتقوى وتضعف وتلك هي جدلية التاريخ ، لكن ما يخيفنا بالفعل هو استثمار سماسرة التخلف وما يسمى ممرات الاسفنج الماصة للدماء والدموع والعرق للمصائب: فهذه الديكة الصلعاء لا تصيح الا عندما يأزف الليل وفي لحظة الغسق ، لكنها تصاب بالخرس عند الفجر.
كل ما نسمعه ونقرأه ونشاهده الآن من نعيق سياسي كان موجودا في كل الازمنة وسيظل موجودا ايضا حتى القيامة لكن وجوده كان على الدوام سريا وعلى استحياء وفي الظلام وبصوت خافت او مهموس ، ورهان هذا النعيق هو تحول امة بكل ما لديها الى اطلال وبالتالي تأييد لحظة الانهيار وهو بالتأكيد رهان خاسر،،.
الدستور