من أين تأتي بالفصاحة كلها: الحب بغبش رمادي

يفيض منها وجد، هو بوح الروح الباذخ، وبلا مِنّة يحيل القلب إلى عوالم تشع رونقاًً، وتترك فيه رغبة في ترديد "أحبك" بلا كلل، مدفوعا بغرام متوهج ومتغلغل حد استمرارية الخلود.
تتبدى فيها ملامح الحبيب وتتجرد ذاكرة الوجد، المفضي إلى جسر نصب بين هاويتين.
فيها ظل طويل آخذٌ في التلاشي، خشية فقد يتطاول مثل لذة يهزها الألم أو يهزمها.
أحبك، هي عتبة الدخول، وتأتأة بدايات الهجس قبل أن يصير أشواطا وأرقا، وفيها بصمة لم تكتمل للرغبات والشهوات قبل انفلاتها.
فيها ولع يتوهج في لحظة التوتر، قبل أن يدفع بمقذوفه الروحي او اعادة تأويل اللحظة تحت سطوة قهر عنيف الايقاع، وهي كما سؤال يجوس في الإمكانية والمتاح على الرغم من مراوغة تتبختر في الارجاء.
فيها جليدية الحبيب ونزقه، على الرغم من استحواذه على شمس القلب وإدراكه أنه حاجة قصوى، وأنه ربان القلب ومدينة الحب التي لا تعرف الصقيع. فيها استسلام للنزق الحبيب الذي عادة ما تظهر بواكيره، وهي لم تغادر بعد لحظة تشكل التساؤل الاول عن المرايا في نسيانها المبيت للغائبين.
فيها دهشة فتاة تهب حبيبها رحيق حياتها، وهي التي تتقن استيلاد ذاكرة الأمس، رغم ضمور القدرة على الحب. وفيها ثورة الشك في قلب مترع بوجع تؤصله مكامن الإغواء، ولكنه كل يوم يكتشف في خلواته أنها تجهز على متبقيات روحه بانكسارات تراكم فيه لذة العبودية لامرأة فيها الاستبداد كله.
قال عاشق في مسعى لتبديد شكوكه وخيباته، ان حبيبته ربما تكون امرأة ولدت في يوم ملعون، فصارت أيامه كلها مغمورة بلعنات شك يكبل حياته بفعل قوانين تسخرها الاسر للتلقين والامتثال، اللذين يقاتل ليتحرر من هيمنتهما المقيمة على الروح.
أضاف أن حبها كان وكأنه اشتعال لحواس مؤجلة، تنتظر الانفلات من دروس اضافية تلقنتها في الحب عند الجارات، وهن يستدعين ذاكرة عشق كانت البيادر ومواسم الحصاد واحاته ومبتداه.
فيها غموض الرعشة قبل ولادتها ووقوف على انكسار تثيره الأسئلة الوجودية، واضطراب علاقة الحب واخفاقه في إضفاء سعادة على وجه الحياة الكالح.
حين يخفق الحب يصبح العشاق خصوما غير مكافئين للحياة التي تبقيهم في شرنقة الحزن طويلا.
عرفت محبا آخر أخفق اخفاقا ذريعا فكان حريصا على أن تنساه الحياة، لكنه كان كثير المفاجآت بين حين وآخر، وكان يؤكد أن القدر اختاره ليجلو غياب الوفاء بعد أن أمعن في الأبدية.
حزن الناس لفجيعته، التي اودعته عزلة مطبقة، وقالوا ان موته كان انتقالا من عزلة مؤقتة الى اخرى موغلة في الابتعاد، اما المتطيرون فقيموه شخصاً لا يفهم ثنائية الخير والشر.
في مراسلاته كان صاحبي مبهورا بضوء حسب أن التقاطه من الضفة الاخرى يعني استسلاما لإغواء غامض شكل له مصدر إلهام لحب أزلي تبين أنه صار مثل أرملة لمشاعر خادعة دامت سنين طويلة، مثل غياب وموت.
كان صاحبي دائم الضجر، فنسي كيف يغالبه النوم، فلا ينغمس فيه أبدا الا مع بوادر الشروق في قرية لم تعد صباحاتها مبهجة كما كان دأبها زمن العشق الذاهب .
استذكر "ابو حيان التوحيدي" وهو يردد : الهوى مركبي ... والهدى مطلبي ... فلا أنا أنزل عن مركبي ... ولا أنا أصل إلى مطلبي ... أنا بينهما مأخوذ عن حقيقة الخبر بتمويه العبارة …
...احبك، تعني جنوحا تنقاد إليه الدواخل التي يأسرها اشتعال ورغبة في بوح يخترق الحلم وينأى بالروح عن الحيرة والانكشاف والعجز أمام جمال المرأة.
أحبك، تشعلها لحظات تأتي نادرا، ولعل منها فيض الوجد على لسان نجاة الصغيرة وهي تردد منذ زمن بعيد، وتتساءل بلهفة : من أين تأتي بالفصاحة كلها. ليتبدى الحب والحب كله وإن بغبش رمادي يوقظ الروح ويبعث فيها الحياة.