عندما يكون الإسلام هو الحلَّ

المفكرُ الإسلاميُّ جمال البنا اقترح مؤخَّراً أن ينسحب الإخوان المسلمون من الحياة السياسيَّة، ويكتفوا بهداية الناس. اقتراحٌ جليلٌ وفريدٌ من نوعه. وهو يبلورُ ضيقَ الخصومِ السياسيِّين والمدنيِّين من هذه الحركة التي ركبت (والعياذُ بالله!) على الإسلام لتصلَ إلى السلطة. ولأنَّ الإخوانَ لا يطيقون جمال البنا كما لا يطيقونني، فإنَّ لهذا الاقتراحِ أن يذهب أدراجَ الرياح طبعاً. غير أنَّ مناسبة الحديث – ولا ضرورة لمناسبةٍ حتى أهاجمَ الإخوان – أنَّ الدينَ مطيةٌ سهلةٌ في زمن الفراغِ القيمي والانكساراتِ الكبرى، يُقادُ به (أي الدين) تحت جُنحِ ليلِ التخلِّفِ هذا إلى عالم السياسة القذر، بينما المعلنُ أنَّ الغايةَ "الإسلامُ هو الحلُّ"!!!
وقد يبدو هذا الشعارُ لعامة المؤمنين مقنعاً، لما يَعِدُ به من جناتِ الدنيا والآخرة، غير أنَّ من حقِّ المؤمنينَ أن يمحِّصوا ما في هذا الشعار من تمويهٍ خبيثٍ، أدَلُّه ما انتهت إليه الثورةُ الإيرانية من إخفاقٍ، لولاه لكانت إيران إحدى أهمِّ الدولِ في العالم الصناعيِّ، وأدلُّه إخفاقُ التجربةِ السودانيَّة التي تزيَّت بالإسلام وما تزال، في إحداثِ أي تغيير إيجابي، وتنميةٍ حقيقية. بل إنَّ العكسَ هو الصحيح. أي إنَّ البلد عانى ومايزال من تسارعٍ في التدهورِ الحضاريِّ والأخطار.... ومثلُ ذلك ما تتَّجِه إليه دولةٌ هنا ودولةٌ هناك، وما تغازله جزئيّاً أو كليّاً هذه الدولةُ أو تلك، وما تعلنه في الأثناء القاعدةُ وطالبان وجماعات الجهاد الإسلاميّ... فهل نقولُ إذن إنَّ الإسلامَ هو المسؤولُ عن انحدار هذه الشعوبِ، ما دامَ القادةُ الأجلاءُ في السلطةِ وتلك الجماعات يُعلنون شعارَ "الإسلامُ هو الحلُّ"؟؟
الجوابُ بدهيٌّ، ولا نحتاجُ أن نزجَّ بديننا في لعبة المصالحِ التي تتنكَّرُ عندَ أبسط محكٍّ عن أعظمِ المبادئ. ولمَّا كان الدينُ نداءً محضاً للأخلاقِ، وتوجُّهاً جوهرياً للمبادئ، فإنَّه من العبث والغبنِ والافتراء على الدينِ، أن يزعمَ زاعمٌ، أجماعةَ الإخوانِ أم طالبان كانَ، أنَّه سيطبِّقُ الدينَ في الأرضِ، وسيطردُ الشيطانَ وأميركا منها، ما دامَ يحملُ ذلك الشعارَ المغري: "الإسلامُ هو الحلُّ"!!! ذلك، كما قدَّمتُ، أنَّ دهاليز السياسة الوسخة لا تتسعُ للدينِ الطهوريّ الذي هو في النهايةِ نشاطُ روحانيٌّ فرديٌّ (مهما كانَ فيه من مظاهر الاجتماع) قائمٌ على تعقيمِ البدن والروح من أدرانهما. فالإسلامُ، على عكسِ أديانٍ أخرى، دينُ الأفرادِ لا دينُ المؤسَّسات. والذين على دراية بمؤسسة الكهنوت يعلمون أنَّ الكهنوتَ يمنحُ التوبة عندَ طلبها (وفي يومٍ من الأيامِ اشترى المؤمنون العاصون لأنفسهم مقاعد في النعيم بصكوك الغفران)، بينما التوبة في الإسلامِ لا يعلمُها إلا الله وحده. وفي الإسلامِ لا يملكُ أحدٌ الحقَّ في محاسبة من لم يُصلِّ ولم يصُمْ ولم يحجّ. أي أنَّ العلاقة شخصيَّةٌ مع الخالق. وهذا يُفضي إلى أنَّ الإسلامَ تحديداً دينٌ فرديٌّ.
نعود إلى اقتراح المفكر الإسلامي جمال البنا، ابن شقيق الداعية الإسلامي حسن البنا، فنتمنى على الحركات الإسلاميَّة المعاصرة أن تشتغلَ على النهوض بالأخلاقِ، وتربية الضمير لدى الناس، بدل سنِّ أسنانها لاستلامِ السلطة، وتشويق العامة إلى حلولٍ مستحيلة، إن لم أقل خادعة!!! وعلينا أن نتصوَّرَ ما الذي كانت لتكون عليه شعوبُنا، وهي تنهضُ في الصباحِ إلى العملِ الخلاقِ، وبضميرٍ حيٍّ !!! وبهذا المعنى فقط يكون الإسلام حلاً... ولتُترَكُ الدنيا عندئذٍ لأهلها الذين هم أعلمُ بشؤونها، أي لأولئك الملوَّثينَ بسياستها ودرنها الأرضيِّ.