خاطرة جميلة !!!

اقترن اسم جميلة منذ الصبا بثلاث نساء ، هن جميلة بوحيرد التي دخلت التاريخ من بوابته الجزائرية العالية ، وجميلة بطلة رواية جنكيز اتماتوف وهي عنوان اشهر اعماله ، وجميلة الصبية التي سال دمها على سفح جبل في فلسطين فملأه بشقائق النعمان.
ولم اشأ الكتابة عن اجمل الجميلات ابنة بوحيرد عندما تحولت استغاثتها من اجل العلاج الى فضيحة قومية وانسانية وربما تاريخية ، وانتظرت الى ان تجاوزت جميلة المحنة ، وأتمنى ان تكون تجاوزتها بالفعل ، وهذه مناسبة لفتح ملف قديم متجدد حول مصائر من دفعوا حرياتهم وحياتهم ثمنا لحرية الآخرين ، لقد اخذوا بعض ما استحقوه من تكريم معنوي من الناس ، وثمة جزائريات يقسمن الآن بجميلة الجدة الباسلة بدلا من اي قسم اخر ، لكن الدين لا يزال كبيرا في اعناق دول ومؤسسات وافراد على امتداد هذه التضاريس العربية التي تتدرج من المحتل الى شبه المحتل الى المدرج على قائمة الاحتلال.
كنا اطفالا نلثغ بالنشيد تحت اشجار السرو عندما كانت جميلة تصد بيديها النحيلتين جيشا من الغزاة ، وتدافع عن سمعة المرأة لا في بلادها فقط بل على امتداد هذه الارض ، لكن لم يخطر ببالنا ذات يوم ان من افتدونا سوف لا يجدون العلاج في شيخوختهم وعندما تصبح ضفائر الفدائيات بلون الياسمين.
لقد تخيل الراحل محمد الماغوط في احدى مسرحياته الساخرة صقر قريش وهو يعود الى حدود بلد عربي بعد قرون من تلك الرحلة العظيمة وبطريقته الساخرة ، دفع العرب المعاصرين الى مقايضة الصقر بحافلة معبأة بأكياس الطحين ، ثم قال: انها أمة من جبال الطحين. ولو عاد اي بطل عربي الى عصرنا جريحا لما وجد حتى قطرة ماء ترطب شفتيه ، وقد يسلمه ذوو القربى الى الاعداء ، معتذرين لهم عما افترف،.
ما لقيته جميلة قد تلقاه دلال المغربي اذا عادت في زمن نسي اليتيم فيه قاتل ابيه وتعلق برداء او حذاء زوج امه ، ما دامت الحرة الآن تجوع فتأكل بثدييها وما دام الرجل الذكي والماهر هو من يبوس الكلب من فمه بحيث يبلل لعابه شاربيه حتى يأخذ حاجته منه،.
ما الذي جرى لذاكرة رملية تسرب منها الدم كما الماء؟ ولماذا يتخلى الاحفاد عن اجداد اجترحوا لهم طريقا آمنا في الغابة؟.
جميلة بوحيرد ليست سوى مثال ، فالذين قضوا من اجلنا نساء ورجالا ، نسيناهم قبل ان ننفض عن قمصاننا غبار الدفن لان الحكمة الآن لصالح المخرز ولان القامة صغرت حتى اصبح نصف متر من القماش يكفيها فراشا وغطاء وكفنا،.
ولو عدنا الى الوراء عقودا وفتشنا عن نهايات من نابوا عنا جميعا في السهر على ما تبقى من الحجر والشجر والاطفال لشعرنا بالخجل مرتين ، مرة لأنهم لم يكافأوا على فضائلهم ومرة لاننا لا نستحق تلك الفضائل وكان مالك حداد ابن عم جميلة قد قالها بفرنسية جارحة: لكي نستحق العسل ، علينا ان نملك فضائل النحل ونغامر مثله ، ونهتدي الى الرحيق ، لكن الذباب لا شأن له بالرحيق فهو يتساقط على اي جيفة او دودة ميتة او قطعة حلوة عطنة،.
لم تكن جميلة جدة الجزائريات وحدهن ، انها جدتنا جميعا ، وهي وشم في ذاكرتنا وعلى شغاف القلب في زمن ضلّ فيه الجمال طريقه وغادرت الجبال مواقعها نحو قيعان تعج بالحصى،،.
الدستور