الرياض وطهران.. صراع في بغداد وعليها

ما أن استكملت القوائم العراقية الرئيسة الفائزة في الانتخابات موسم حجيجها لطهران ، حتى بدأت القوائم ذاتها (باستثناء دولة القانون برئاسة المالكي) موسم حجيج ثانيا ، ولكن باتجاه الرياض هذه المرة ، ولو أن مراقبا حصيفا وضع جدولاً مقارناً بتصريحات المسؤولين العراقيين الزائرين للعاصمتين ، لوجد أنهم قالوا نفس الكلام تقريبا ، مع أن عددا من القوائم العراقية خاض الانتخابات بشعارات معادية لسعودية (والعرب عموما) فيما قوائم أخرى خاضت الانتخابات بشعارات مناهضة لإيران وداعية لتحجيم نفوذها السلبي في العراق.
يبدو أن الكيانات العراقية المختلفة قد استلهمت درس لبنان لجهة الإقرار بدور متوازن ، أو أكثر توازنا بالأحرى ، لدول الجوار ومختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين فيه ، فلا إيران وحدها قادرة على تقرير مستقبل العراق بالضد من إرادة ومصالح الولايات المتحدة والدول العربية ، ولا الأخيرة قادرة على تجاهل الثقل الوازن لنفوذ إيران فيه ، أياً كان موقفها من إيران وطموحاتها ومستقبل برنامجها النووي.
في المقابل ، بدا لافتا للمراقبين التغيير في "لغة ونبرة" بعض اللاعبين الإقليميين الكبار حيال العراق ، فإيران تصر على مشاركة مختلف الكيانات والمكونات العراقية الكبرى في الحكومة الجديدة ، وهذا ما أبلغته لزوّارها العراقيين ، في المقابل نقل الزوّار أنفسهم عن القادة السعوديين قولهم "أن المملكة تقف على مسافة واحدة من جميع العراقيين" ، وأنها تدعم مشاركة كل الكيانات والمكونات العراقية في الحكومة الجديدة.
نحن نعرف بالطبع ، أن لا إيران ولا السعودية تقف على مسافة واحدة من جميع العراقيين ، فهل يعقل مثلا أن يكون عمّار الحكيم وإياد علاوي سواء أمام طهران ، وهل يعقل أن يكون المالكي وعلاوي بنفس الثقل في ميزان الرياض وموازين سياستها العراقية؟،.
لقد أدركت الجمهورية الإسلامية في إيران أن حكم العراق بالشيعة وحدهم ، أو بدورهم المهيمن ، هو طريق الخراب للعراق وعلاقات إيران في العالم العربي ، واستتباعا لنفوذ إيران وأصدقائها في العراق نفسه ، فبعد سنوات عجاف من هيمنة أعوان طهران وميليشياتهم على المشهد السياسي العراقي ، عاقب الشعب العراقي هذه الجهات ، لتجد إيران نفسها مضطرة للإقرار بدور "المكون السني" في معادلة العراق الجديد ، كما ظهّرتها الانتخابات الأخيرة.
في المقابل ، يبدو أن المملكة العربية السعودية سلّمت مؤخرا ، ومتأخرة بعض الشيء ، بأن العراق لم يعد كما كان ، وأن بقاء الحال من المحال ، وأن تجاهل الدور القيادي لشيعة العراق غير ممكن ، وأنها ستضطر للتعامل مع جار عراقي بنكهة مختلفة بعض الشيء ، حتى وإن أثار ذلك المخاوف والتحسبات والحسابات لديها ، الداخلية منها والإقليمية.. لقد اكتشفت المملكة أن سياسة "إعادة توجيه الحركة السلفية بمدارسها المختلفة ضد الشيعة اليوم بدل الشيوعية بالأمس" لن تكون استراتيجية ناجعة بحال من الأحوال ، لذلك فتحت ذارعيها للحجيج العراقي بدءا بالصدريّين مرورا بعمّار الحكيم ، ولاحقا بالمالكي وائتلاف دولة القانون ، وهي اعتمدت خطاب "المسافة الواحدة من جميع العراقيين" تماما مثلما يفعل الإيرانيون ، لفظيا على الأقل ، ومن قبل الجانبين على حد سواء.
ما الجديد الناشئ في معادلات العراق الداخلية منها والخارجية؟ وهل يمكن توقع دور إيراني - سعودي في العراق شبيه بالدور السعودي - السوري في لبنان؟ من يتأمل تطور الخطابين الإيراني والسعودي حيال العراق ، يمكنه الاستنتاج بأن "العلاقات السعودية الإيرانية" يمكن أن يكون رافعة للانفراج في العراق ، ويمكن أن تكون سببا في مزيد من التأزم والتوتر بين كياناته ومكوناته ، تماما مثلما كان صعود وهبوط العلاقات بين الرياض ودمشق ينعكس على الداخل اللبناني تأزيماً وانفراجاً (مع الأخذ بنظر الاعتبار أن دور السعودية في العراق أقل بكثير من دورها في لبنان) ، فالتقارب السعودي- السوري كان مدخلا لاتفاق الدوحة وانتخاب رئيس للبنان وإجراء انتخابات عامة وتشكيل حكومة وفاق وطني ، و"الحوار السعودي الإيراني يمكن أن يكون مدخلا لانفراج أزمة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة ، ويمكن لأطراف عربية أخرى أن ترفد الجهد السعودي وتدعّمه بالمزيد من أوراق قوة واقتدار تعوّض بها اختلال توازنات القوى العراقية الداخلية المائلة لصالح طهران ، على أن يسبق ذلك اعتراف عربي متبادل بأدوار ومصالح اللاعبين العرب أولا ودور إيران ومصالحها ثانيا ، والأهم من كل هذا وذاك ، وقبل كل هذا وذاك مصلحة العراق ومصلحتنا في استعادته حراً ، سيداً ، مستقلاً ، موحداً وديموقراطيا ، فهل نحن فاعلون؟،.
الدستور