العالقون بهذا العصر!!

تحتاج شعوب العالم الاكثر تخلفا وفقرا والأقل ادراكا لما يجري داخلها وحولها الى وسائل ايضاح حول انقراض بعض الكائنات لأنها فقدت القدرة على الشعور بالالم ، او حتى الجوع فانتهت الى هياكل متحجرة.
وحرق المراحل الذي ادى في الطريق الى احتراق شعوب اصاب العطب بوصلتها لا ينجو منه الا من شاهدوا الطائرة منذ لحظة الاقلاع حتى الاختفاء وراء السحب ، وهذه العبارة الاخيرة قالها الشاعر البريطاني إليوت في ثلاثينيات القرن الماضي تعليقا على سوء التفاهم بين المرسل والمتلقي ، اذ بلغ الفارق بينهما حدا كارثيا يتعذر معه ردم الهوة،.
وما يقال ايضا عن انقراض الهنود الحمر هو ان لديهم اعتقادا اسطوريا بأنهم على دراية كاملة بالمستقبل ، ولأن الرجل الابيض لم يكن مدرجا في هذا الاعتقاد بكل ما يعنيه من سلاح ومهارة وتفوق ، فقد فاجأهم من حيث لا يعلمون ، وحكاية الانقراض هذه اصبحت اليوم اشد تعقيدا مما كانت عليه من قبل ، فقد يكون الانقراض معنويا ولغويا وثقافيا وليس عضويا فقط ، بحيث تبقى الشعوب او الكائنات المنقرضة على قيد الحياة.. تأكل وتشرب وتتكاثر ، لكنها آخر من يعلم بما يجري ، فهي عاطلة عن التاريخ ولديها من فائض البطالة ما يشل حركتها وارادتها ، بحيث لا تستجيب لأية تحديات سواء جاءت من الطبيعة والبيئة او من التاريخ او حتى من باطنها ، فالانيميا وتكسر الخلايا والصفائح الدموية المقاومة ليس حكرا على البشر كأفراد.. انه قابل للتعميم على الاجناس والمجتمعات في حراكها التاريخي ، واللغات والهويات المعرضة للانقراض الآن في هذا الكوكب عديدة ولا قيمة للثرثرة عن الانقراض او البؤس او اي افراز سلبي للتاريخ ، لان القيمة هي كما قال روسو للوعي بهذه الكوارث ، فالشقاء وحده لم يخلق ذات يوم رد فعل من اي طراز ، لكن وعي الشقاء هو الحافز الخالد للثورات وانتفاضات وحراك حيوي فاعل.
وأغرب ما في الامر ان هناك من يعيشون في هذا القرن وهذه الالفية الثالثة لكن على الهوامش ، فهم عالقون بالعصر ، وان كان هذا المصطلح "العالقون" قد زحف ليشمل الحدود والجغرافيا والثقافات والنظم السياسية.
ان بيننا اناسا لم يغادروا القرن التاسع عشر وهم من يسمون "التاسع عشريون" بامتياز ، رغم انهم ينعمون بكل منجزات التكنولوجيا ويتحدثون بلغات تبدو كما لو انها من ابتكارهم ، وينسون انه ما من عصر ازدهرت فيه صناعة التقليد ومحاكاة الاصول كهذا العصر.. فقد اصبحت هناك صناعة اسمها طبق الاصل ، تخدع امهر الناس في معرفة الفروق ، لهذا تبدو مشاهدة التقدم كما لو انها مجرد عمران وخدمات وايقاع متسارع ، بمعزل عن المقومات الاخرى التي تتحكم بالتفكير وانماط السلوك ، مما ادى الى انتاج سايكولوجيا عجيبة وأشبه بكيمياء تمزج بين اردأ ما عرف التاريخ من مراحل انحطاط ، وبين ارقى ما انجزت البشرية.
ان الاغتراب ليس كما يراه بعض الناس في حدود الجغرافيا والمكان ، انه من صميم الزمان ايضا ، وللتاريخ منفاه الكبير الذي يتهيأ لاستقبال اعداد غفيرة من اللاجئين ، لكن ما من خيام او وكالات غوث للمطرودين من التاريخ،،.
الدستور