التلويح بالتنسيق الأمني وحل السلطة بين الهزل والجد

على استحياء ذهب أحد رموز حركة فتح والمقربون من دوائر الرئيس الفلسطيني قبل أيام إلى إمكانية قطع العلاقة مع سلطات الاحتلال في حال قيامها بطرد حوالي سبعين ألفا من الفلسطينيين من الضفة الغربية ، وهو ما سيؤدي بحسب رأيه إلى وقف التنسيق الأمني ، وبالتالي إمكانية انهيار السلطة وشيوع الفوضى.
منذ وقت لم نسمع هذا التهديد ، ففي زمن جماعة رفض العسكرة ودولة "الأمر الواقع" و"بناء المؤسسات" لا مكان لخطاب "ثوري" من هذا النوع قد يؤثر على الاستثمارات ومؤشر البورصة ، وقد يعيق تدفق المستثمرين العرب نحو الأراضي المحتلة (مناطق السلطة) التي ستغدو بعد عام ونيف دولة ملء السمع والبصر بحسب ما يبشرنا رئيس وزرائها.
والحق أنه ما من شيء يمكن أن يؤدي إلى تراجع الإسرائيليين عن مشروع طرد الفلسطينيين المشار إليه ، أو حتى عن تهويد القدس والمقدسات مثل التلويح بحل السلطة ، على أن يكون ذلك تهديدا جديا ، وليس مجرد كلام بلا قيمة حقيقية كما كان دائما.
يذكرنا هذا الأمر بجملة مصطلحات تتعلق بهذه السلطة العتيدة ، لعل أهمها المصطلح الذي نحته الكاتب الإسرائيلي "عكيفا الدار" ، وهو "الاختراع العبقري المسمى سلطة فلسطينية" ، وأنا شخصيا أشهد ، ويشاركني الرأي كثيرون أنها بالفعل اختراع عبقري ، إذ قيّدت مسار القضية برمتها ، كما قيّدت أصحابها بقيود يصعب الفكاك منها من دون أثمان باهظة بالنسبة للقيادة العتيدة.
آخرون في الساحة الإسرائيلية استخدموا مصطلح "احتلال ديلوكس" ، أي احتلال فاخر ، وبالطبع تبعا لما توفره صيغة السلطة إياها من مزايا أمنية واقتصادية وسياسية للاحتلال ، وعلى رأسها التخلص من عبء المقاومة في ظل خروج الجيش من تجمعات السكان والتنسيق الأمني ، أي التخلص من الوجه القذر للاحتلال ممثلا في صدامه مع الناس ، فضلا عن البعد السياسي من حيث التخلص من صيغة الاحتلال المباشر ، مع العلم أن مهمة الجنرال دايتون وتوني بلير هي المحافظة على هذه الصيغة وتكريسها على نحو لا فكاك منه ، الأمر الذي بات واقعا في ظل القيادة التي سيطرت على حركة فتح والمنظمة بعد ياسر عرفات.
بوجود ذلك الجيش من الموظفين (مدنيين وعسكريين) وتفرغ القيادة بكامل امتيازاتها ، والارتباط العضوي بين كثير من رموزها مع دوائر الاحتلال ، لم يعد بالإمكان التلويح بخيار حل السلطة ، اللهم إلا إذا أصيب القوم بنوبة استشهادية بعرف أهل العلم أنها لا تأتي في سن متأخرة باستثناء حالات نادرة لا يعتد بها ، وإذا حصل أن أصابت واحدا من القوم ، فسيبادر الآخرون إلى توفير العلاج اللازم على نحو سريع قبل أن تتفاقم الحالة.
سيناريو حل السلطة كان بالنسبة للإسرائيليين هو "السيناريو الكابوس" ، بحسب تعبير كاتب إسرائيلي هو "يهودا ليطاني" ، وكان طرحه بعد عملية السور الواقي التي عاد الجيش الإًسرائيلي من خلالها إلى مناطق (أ) بحسب تصنيف أوسلو ، من دون أن يبقى فيها بكل دائم.
نؤكد مرة أخرى ، أن خيارا من هذا النوع لو كان مطروحا بالفعل على الطاولة ، بل ربما ما هو دونه ممثلا في وقف التنسيق الأمني والسماح بتحرك أفضل للمقاومة ، لما تجرأ العدو على اتخاذ خطوات من ذلك النوع ، لكنه يرى أن كل ما يفعله لا يزيد القوم غير تشبث بمشروعهم "مشروع الدولة" ، أي دولة ، فيما يرى بأم عينه طبيعة تلك القيادات التي تتحرك على حواجزه وببطاقات في آي بي يمنحها هو لا غيره ، كما يراهم ويعرفهم في اللقاءات المختلفة ، بما في ذلك القيادات الأمنية ، ولذلك فهو مطمئن تمام الاطمئنان ويتصرف على نحو لا يضع في الاعتبار ذلك الرد ، أو يهمشه في أقل تقدير.
كل ذلك يؤكد أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق قيادة السلطة وحركة فتح ، وأي كلام غير هذا هو محض كذب وتدليس ، ولو قررت تلك القيادة مسارا آخر لما كان بوسع الوضع العربي ، بما في ذلك "المعتدل" منه ، سوى التجاوب بهذا القدر أو ذاك ، أقله خوفا من الجماهير التي لن تسكت على ترك الفلسطينيين يواجهون مصيرهم وحدهم.
الدستور