الماء والكلأ مرة أخرى!

قبل اندلاع حروب الخليج الثلاث التي شكلت بمجموعها ما يشبه حربا عالمية ثالثة ، كان الخبراء الاستراتيجيون يقرعون أجراسا للانذار بحروب مؤجلة ، في مقدمتها حروب الماء ، ليس فقط بسبب ما طرأ على هذا الكوكب من جفاف ومتغيرات بيئية ، بل لأن عدد سكان العالم تضاعف عدة مرات منذ اخر اتفاقيات دولية عقدت بشأن توزيع حصص الماء من الانهار ولأن العالم العربي متورط بمنابع انهاره وهي من خارج حدوده فان المشكلة تصبح اكثر تعقيدا ، وما يثار الآن حول نهر النيل ثالث انهار العالم طولا ينذر مجددا بتوترات سياسية بين المنبع والمصبّ ، خصوصا بعد ان اعلنت بعض دول حوض النيل ان هذه المسألة من صميم وعمق الأمن القومي ، وانها من اشد الخطوط حساسية واحمرارا.
ان عبارة مصر هي هبة النيل التي ترددت عبر العصور بدءا من هيرودتس تأخذ الآن دلالة اخرى ، خصوصا بعد اعادة فتح هذا الملف الازرق ، ومحاولة بعض الاطراف ذات العلاقة بالمنابع اعادة النظر في اتفاقيات موروثة منذ الحقبة الاستعمارية في المنطقة.
لقد عرف التاريخ انماطا من الحروب بعضها يبدو غريبا الآن وفي زمن النفط والمناجم والمواقع الجيوبوليتيكية الحساسة ، منها حرب الملح مثلا او حرب السكّر وكلاهما العذب والمالح طرفا معادلة كونية ذات تجليات مختلفة ، فقد سبق لكاسترو في ذروة الحرب الباردة ان قال بان الكوبيين وحدهم من يعرفون ان السكر مرّ تماما مثلما قال اصحاب ثروات هاجعة في باطن الارض ان النعمة تحولت الى نقمة في بلدانهم ، لانها اسالت لعاب اباطرة وقوى ، غالبا ما كان متمددها خارج حدودها بحثا عن مجالات حيوية سواء كانت الماء الدافئ او النفط او السوق.
الارجح ان هذا الملف النيلي الازرق لن يغلق في المدى المنظور وثمة قرائن عديدة تشي بان المشكلة المؤجلة اصبحت وشيكة الانفجار يؤكد ذلك التصريحات الصادرة والجدية التي تصدر عن هذا الطرف او ذاك ، وكان ما يسمى الخطوط الحمراء اصبح بديلا لما كان يسمى من قبل الحدود المقدسة او السيادة ، والملايين المهددة بالظمأ والجفاف تدرك بأن الحياة بلا ماء هي المعادل الموضوعي للموت ، الذي يشمل الزرع والضرع وكل شيء ، وثمة شعوب هاجرت في التاريخ بحثا عن الماء ، مثلما هاجر سواها بحثا عن الكلأ لكن حل الهجرة لم يعد ممكنا في هذه الجغرافيا السياسية ذات التضاريس الصلبة لهذا يضع المهددون بنفاد الماء هذه القضية بموازاة الاستقلال الوطني والسيادي.
عدة قضايا تزامنت في اعادة فتح الملفات ليس الماء وحده له دور البطولة فيها :ما يفرض على العالم العربي بالتحديد اعادة النظر في ما كان يسمى ذات عروبة الأمن القومي العربي ، فالآن يتحسس كل قطر موقع قدميه والدوامات من كل النواحي تهدد القامات الطويلة والقصيرة على السواء بالغرق في الرمال.
ما الذي تبقى من الوقت والاخطار العاجلة كي يبرر للعرب تأجيل النظر في دفاعاتهم القومية ليس من اجل تمويل ورفد الاناشيد السياسية بألحان جديدة بل من أجل البقاء..
ان من سوف يموتون في حروب الماء قد يكون عددهم اضعاف من ماتوا من اجل اي سائل اخر،،:
الدستور