لَيْسَتُ نكْتة !!

تداول عرب نهايات القرن العشرين نمطا من النكات والطرائف السياسية السوداء تعبيرا عن واقع الحال ، وهي كثيرة يتعذر احصاؤها رغم عدم اهتمام علماء الاجتماع السياسي والنفس بها وبالاسباب التي أدت الى افرازها كبديل عن المبادرات الجدية للتغيير ، فالهزائم عندما تتلاحق تخلف لدى المهزومين حالة من المازوشية تجعلهم يستمرئون عضّ الذات وهجاءها والسخرية من انفسهم.
احدى تلك النكات تقول إن احد الباحثين حمل سؤالا وطاف به عواصم عربية ، هو ما رأيكم في اكل اللحم؟
في عاصمة ما ، اجاب مواطن لا اعرف ما الذي تعنيه بكلمة لحم ، ذلك ببساطة لان تلك العاصمة فقيرة ، وحين يفاضل الناس فيها بين الحرية واللحم يفوز اللحم ، ليس فقط لندرته بل لأن اللعاب يسبق الكلام عندما ترد هذه المفردة في اي سياق او سؤال.
في عاصمة اخرى اشد فقرا اجاب المواطنون لا نعرف ما المقصود بكلمة اكل ، فقد نسوه منذ زمن ، وربما لهذا السبب رسم فنان لوحة فازت بجائزة اليونيسيف هي عنكبوت بنى بيته على الافواه،
وفي عاصمة موسرة ، لا يعاني الناس فيها من شح اللحم او ندرة الاكل ، اجاب المواطنون عن السؤال ذاته وهو ما رأيكم في اكل اللحم قائلين: لا ندري ما الذي تقصده بكلمة رأي.
هكذا تتكامل اقواس الدائرة لتنغلق على مركز واحد ، هو سرّة وطن لم يقطع حبلها حتى بعد الفطام وبلوغ ما يسمى سن الرشد رغم اعتراضنا الجذري على هذه العبارة ، فالرشد ليس الشارب او اللحية او استكمال الانثى لعناصر تكوينها الجسدي ، انه شيء آخر تماما ، فثمة اناس بلغوا التسعين لكنهم لم يبلغوا الرشد ، وثمة شعوب عمرها ألفيات من السنين لم تحتفل بالاقلاع عن الفطام.
لهذا علينا ان نبحث عن معجم أخر يليق بما انتهى اليه البشر في هذه الحقبة التي اعيد فيها الآدمي قردا ، وتوقفت فيها الأرض عن الدوران واستطالت،
هكذا يصبح الحوار بين طرشان ولا احد يفهم احدا ما دام هناك من يفكر بالأكل فقط ، وهناك من يسيل لعابه اذا سمع كلمة لحم حتى لو كان المقصود بها لحام الكهرباء ، والاطفال يلثغون بكلمة الرحمة فتصبح لحمة ، وهناك من لم يسمعوا بكلمة رأي رغم التخمة التي يعانون منها وهناك من كانت اخر وجبة التهموها هي ما تبقى من اسمال تستر عوراتهم،
يقال ان النكتة هي المفتاح السحري لقراءة وجدان شعب ، فهي غير قابلة للترجمة لأنها تعبر عن المسكوت عنه والمحظور لدى شعب ما تتحالف كل المكبوتات النفسية والجسدية والاثنية من اجل تحويله الى نفق اسود ا و اشارة تعجب يقطر منها الدم،
ولو راجعنا النكات الاكثر رواجا في فترة ما لوجدنا انها الوثيقة الادق التي تعبر عما يدور في دواخل الناس ، فهي احيانا تصبح مقاومة ، كما قال جورج لوكاتش شرط ان لا تتحول الى اسفنجة لامتصاص الدمع.
كلنا غالبا وفي العالم العربي بالتحديد تتحول الى ديناميكية سالبة ، وينتهي مفعولها عند ذيل الضحكة المبلول بالدمع،
ولكي تستكمل هذه النكتة مفارقتها فان الذي رواها لي زعيم سياسي،
الدستور