فضائيات المرّيخ

لم يطلب احد من الفضائيات العربية ان تكون متساوية كأسنان المشط ، لان المشط ادرد ، ولم يطلب احد منها ان تظهر بالزي الموحد تحت علم او تردد نشيدا واحدا.. فالتنوع غنى والتكرار افقار ، لكن اكثر هذه الفضائيات انفصل عن جاذبية الارض بحيث تبدو كما لو انها تبث في المرّيخ او اية مجرّة اخرى لا علاقة للانسان بها.
نموت بالجملة وليست لها علاقة كما لو انها لم تسمع بالنّبأ ، ونجوع حتى نسفّ الرمل والتراب ولا علاقة لها بما يجري ، فالحياة اختزلت حسب هذا الفقه الفضائي الى رقصة خرقاء وأغنية لا تطرب غير الطرشان واعلان يحول الشاشة الى مفرغة هواء في مطبخ،.
للمرة الألف يلامس ميداس العرب المعكوس النعمة فيحولها الى نقمة ، فقد لامس الذهب الاسود مرّة وحوله الى قصدير ولامس الحرية فحولها الى زنازين ولامس اكثر قضايا الكون عدالة فحوّلها الى ورطة،،.
عندما حوصرت غزة ، كانت فضائيات المريخ تقدم نشرات اخبار مفصلة وعلى مدار الساعة عن اشاعات النجوم وزواج وطلاق الكومبارس لفرط الدقة وكل ما يجري في العراق يتحول بلمسة سحرية الى دبكات ورقصات لقطيع من النساء اللواتي يشبهن الجواري ولا علاقة لهن بالفنّ ، وعندما احرق الاخضر واليابس في لبنان كانت فضائيات المريخ تحصي عدد سيارات الفنانين وفساتين السهرة للممثلات وترصد باخلاص النميمة التي تدور وراء الكواليس في كل مكان باستثناء كواليس الموت والدمار،.
فضائيات المريخ اخذت على عاتقها افساد ما انجز في الماضي وقبل اختراعها ، فالاغاني القديمة غير المغشوشة يعاد انتاجها اعلانيا والافلام القديمة الهادفة والجادة تجري لها جراحات غليظة كي يقدم منها الهامشي والجنسوي العابر الذي لم يكن في الاصل معزولا عن سياقه.. انها تشبه حفلات تنكرية ، بحيث يغني الايتام في مآتم آبائهم ، وتزغرد الثواكل فور الفراغ من دفن الابناء بالجملة.. من اين جاءت والى اين سوف تمضي هذه القافلة الفضائية العمياء؟.
ان ميداس العرب المعكوس الذي حول النعمة الى نقمة في كل شيء ، واصل عبر الفضاء مهمته ، تماما مثلما تحول الهاتف النقال الى اداة عصرية لتطوير النميمة وتدمير الوقت ، وهذا ما حدث للفاكس عندما كان العرب حديثي نعمة به.. ويتكرر الآن في الانترنت.. ما الحكاية؟؟ واية عبقرية تلك التي تحول الذهب الى قصدير ، والتواصل الى عُزلات ومصادر الوعي والتثقيف الى تجهيل مبرمج على مدار الساعة؟.
قد يقولون ان التنوع من صميم الفضاء وان هناك من ينوبون عنهم في تقديم هذه التراجيديا القومية ، لكن هذا التبرير هو بمثابة تجهيل آخر ، ومن الواضح ان دور البطولة المنوط بفضائيات المريخ هو حجب كل ما يحدث على هذه الارض.
الدستور