العصبية القـُطرية تسمم أجواءنا

واقعة إثر واقعة ، يتبين لنا حجم العصيبة القـُطرية التي تجتاح العالم العربي ، في وقت ينبغي أن يتسع فيه حجم الإدراك لأهمية الوحدة العربية كعامل أساسي لن يكون لهذه الأمة مكان تحت الشمس بدونه.
لم نكد نخرج من أزمة مباراة الجزائر ومصر ، إذا كنا قد شفينا منها بالفعل "هناك دعوات وابتهالات لمصريين من أجل هزيمة الفريق الجزائري في كأس العالم، ،"، لم نكد نخرج من تلك الأزمة حتى داهمتنا قصة الشاب المصري الذي سُحل في قرية كترمايا اللبنانية وشوهت جثته بعد قتله من قبل جمهور غاضب عندما كان برفقة الشرطة في طريقه لتمثيل جريمة ارتكبها في القرية.
في مصر استنفرت بعض الجهات من أجل الدفاع عن الرجل ، ورأينا حملات مناصرة على الفيس بوك ووسائل إعلام أخرى ، من دون الانتباه إلى حقيقة ما جرى ، والحيثيات التي أفضت إليه ، وهو ما رد عليه لبنانيون بعرض الوجه الآخر للصورة ممثلا في جريمة المقتول البشعة.
من الضروري القول ابتداءً إن عاقلا لا يمكن أن يوافق على ما فعله أهالي القرية ، أيا تكن جريمة الرجل ، مع العلم أن ما جرى كان ردة فعل عفوية تبعا لسخونة الجرح الذي شعر به الأهالي الذين لا يمكن اتهامهم بالوحشية ، هكذا بكل بساطة.
لكن صورة الجريمة السابقة ينبغي أن تبقى حاضرة في السياق ، فهي من البشاعة بحيث تستفز مشاعر أي إنسان ، إذ قام الرجل بقتل عجوزين وحفيدتيهما ، واعترف بجريمته ، ومن الطبيعي أن يكون الإعدام هو مصيره المتوقع.
الذي ينبغي أن يقال هنا هو أن ردة فعل أهالي القرية لم تكن ذات صلة بجنسية المجرم ، وما إذا كان مصريا أم غير مصري ، ولو كان لبنانيا لما اختلف المشهد بحال من الأحوال ، أما الأهم فهو أن من العبث الدفاع عن رجل يمكنه ارتكاب جريمة بهذه البشاعة ، حتى لو تعرض إلى ذلك المستوى من التنكيل ، مع إقرارنا مرة أخرى بأن ما جرى من اللبنانيين لم يكن محقا ، وهو يتعارض مع تقاليدنا الإسلامية ، بل مع سائر الشرائع الدينية والإنسانية.
الأسوأ في السياق يتمثل في ردود فعل بعض مشايخ الأزهر ، وهو ما ذكّرنا بتوظيف الدين في سياق معركة الكرة السالفة الذكر ، بينما كان الأصل أن يبادر أولئك العلماء إلى تنبيه الناس إلى خطورة مشاعر التفرقة بين المسلمين من أجل مباراة كرة ، أو من أجل الدفاع عن مجرم ، حتى لو تعرض لمعاملة بشعة من قبل أهالي قرية لم يسيطروا على أنفسهم في ضوء بشاعة الجريمة التي أصابتهم جميعا.
في السياق الذي نحن بصدده ، يمكن تسجيل ملاحظة بالغة الأهمية ، إذ أن ردة الفعل حيال ما جرى ظلت في إطار ضيق إلى حد ما ، والسبب هو موقف الحكومة المصرية من القضية خلافا لقصة المباراة الشهيرة التي تولت فيها اطراف في الحكومة عبء التحريض والترويج لردة الفعل الشعبية العنيفة.
حدث ذلك بسبب العلاقة الجيدة بين لبنان الرسمي ، وبين الحكومة المصرية ، فضلا عن مسارعة الدولة اللبنانية إلى إدانة ما جرى بحق الشاب المصري ، ولو تبنت الحكومة ردة فعل أقوى لانبرت الصحف والفضائيات إلى حملة تستنفر كل الشارع المصري ، ولجرى تزوير الوقائع في السياق ، وصولا إلى تبرئة الشاب بهذه الطريقة أو تلك ، مقابل تجريم لبنان واللبنانيين جميعا.
إن مسؤولية النخب المخلصة والعلماء والمفكرين ، إلى جانب القوى الحية ، المضي في برنامج تعزيز الوحدة ، والا فإن مشروعها سيظل يراوح مكانه ، بل يمكن أن يذهب في الاتجاه المعاكس أيضا.
الدستور