ذاكرة الرمل

أعرف رجلا طاعنا في النفي والشقاء وقد قارب الآن التسعين ، يحتفظ بقصاصات صفراء من صحف عربية كانت تصدر عام 1948 ، وحين قارنها بما نشر عام 1967 لم يجد أن الزمن قد غادر مواقعه طيلة عشرين عاما ، وبسخرية يقطر منها الدمع قال ان هذه القصاصات قد تصلح للتعبير عما سوف يحدث لحفيده الثالث.. هذا العجوز ليس مؤرخا ولا يزعم بأنه شاهد على عصره ، لكنه مجرد انسان عادي لم تفقده الأيام والأعوام العجاف رشده الوطني ، وبقي متشبثا بتلك الجمرة التي أحرقت اليد واللسان ، ثم مكثت في القلب حتى القبر.
ولو سمع مستشرق من طراز برنارد لويس ما قاله هذا العجوز العربي لأضاف الى قرائنه وبراهينه ما يرسخ اعتقاده بأن للعرب طبيعة خاصة مغايرة للجنس البشري كله ، لكن هذا التصور قاصر وخاطىء من جذره ، لأن البشر جميعا من صناعة تواريخهم وثقافاتهم ، وقد نجد في ملفات أرقى الأمم أو متاحفها ما يشبه ذلك الذي قاله العجوز العربي ، لأن تلك الشعوب التي تزهو الآن باستقلالها واستقرارها مرت بأطوار قد تكون أقسى مما مر به العرب ، لكن ما من أحد يعير الأثرياء بماضيهم الفقير لأن الناس يتعاملون مع الظواهر والقضايا بنتائجها وبما تقع عليه العين المجردة،
ولا أجد فرقا كبيرا بين ما فعله هذا العجوز الأمي ، لكنه العارف بشعاب التاريخ المعاش لا المكتوب فقط وبين مؤرخ عربي ألف كتابا عام 1967 بعنوان فعالية النكبة ، ثم أصدر كتابا آخر بالعنوان ذاته عام 1967 لأن شيئا لم يتبدل خلال تلك المرحلة باستثناء الشعارات وما تقول البيانات الانقلابية واستبدال باشوات بجنرالات حيث انتهت اللعبة الى الخاتمة ذاتها وهي أن من يصل الى السلطة يفقد ذاكرته أو يجري لها جراحة عاجلة كي لا يتذكر وعدا قطعه على نفسه أو عبارة فقد فيها سلطة سابقة..
ان بقاء الاسباب ذاتها وتغذيتها بما يمدد من صلاحيتها سوف يبقي الواقع على ما هو عليه في العمق ، فالسطح يتبدل ، وثمة تقنية عالية في الطلاء لايهام الضحية بأن التصدير ذهب ولو الى حين ، لهذا نستغرب من ان العجب لم يبطل حتى الان ، والدهشة ذاتها تستعاد في كل صدمة قومية ، ما دات الليلة هي البارحة والثعالب لا تكف عن المراوغة حتى لو ماتت،
ما جدوى ان تتراكم بجوار المريض العربي كل هذه الصور من الاشعة والتقارير اذا كانت المسألة تنتهي عند حدود التوصيف الذي قد لا يبلغ مرحلة التشخيص الدقيق؟
اننا جميعا وباساليب مختلفة نعزف على الوتر ذاته واحيانا نقول الاشياء ذاتها ، وثمة ثقافة ببغاوية تزدهر الان فضائيا.
لكن الداء اخطر.. اي تصور او تشخيص والغيبوبة القومية تنذر بما هو ابعد وادعى الى القنوط،
واذا كان هناك في العرف الاكاديمي دراسات مقارنة في الادب وجمالياته والنقد فلماذا لا تكون هناك دراسات مقارنة في فقه الهزائم المتكررة. وفي الطبقات القومية المنقحة التي اصدرها عرب ما بعد الاستعمار وليس ما بعد الاستقلال من سايكس - بيكو وسان - ريمو وبقية العائلة،
قد يتبدل اسم اللاجئ فيصبح نازحا وقد يتبدل اسم الهزيمة الشاملة فيصبح مجرد نكسة او وعكة قومية ، ما دامت اللغة بمترادفاتها وبلاغتها قد تولت الامر ، وثمة دهاقنة واحبار متخصصون في توظفيها لتحويل التفاحة الى سلحفاة والتخلف الى اصالة والفقر الى مطلب وطني،،
الدستور