الجابري القادم!!

عندما التقيته في دبي قبل أكثر من عام في ندوة بعنوان "من سرق هيجل" ، كان شاحب الوجه ، لكن العقل في ذروة توهجه ، فالجابري اشتبك مع تخلفنا عقودا ثم اشتبك مع قلبه ، وحين علق على الندوة وبالتحديد على مداخلتي التي حملت العنوان ذاته ، قال ساخرا اننا بحاجة الى البحث عمن سرقنا جميعا،.

وقبل أكثر من عشرة أعوام ، دار واحد من أطرف الحوارات العربية في ترانزيت مطار أورلي ، وكان د. الجابري بانتظار طائرة الى الدار البيضاء ، ولسبب ما تأخر عن موعد سفره خمس ساعات أتاحت لنا أن نرى عالمنا العربي من نقطة ما خارجه ، ولأن الرجل رياضي العقل ويتجاوز النقد الى نقد النقد ، فلم يغضب من ملاحظات على احدى دراساته عن ابن سينا واخوان الصفا ، وكنت قد نشرت ذلك النقد في مجلة الفكر العربي المعاصر التي تصدر في باريس ويرأس تحريرها الصديق مطاع صفدي. قلت له: كيف يمكن لابن سينا أن يكون أفضل من ابن سينا؟ ضحك وقال ان ذلك ممكن ، تبعا لكيفية قراءاتنا وبعد تلك الساعات التي لا تنسى افترقنا ، لكنه قال أن هذه الساعات الخمس تلخص أوضاعنا ، فالحوار دار في الترانزيت ، اي في اللامكان وثقافتنا العربية الآن تعيش ايضا في الترانزيت ، ما ان يرحل واحد من هؤلاء حتى نشعر بأن ما نخسره لا يقبل التعويض ، ليس لأن هذا الوطن عاقر ، بل لأن الزمن تبدل وكذلك أدواته ومفاهيمه ، وأصبح مفكرو الحقبة الكمبيوترية يولدون بالاستنساخ ، فهم على قدر كبير من التشابه ، بعكس ذلك الجيل العصامي الذي اجترح لنا آفاقا رحبة لولاهم لما أتيح لنا التحليق.

من أهم ما أنجز الجابري نقد سلاح العقل وليس العقل فقط ، فهو من ندرة ذهبوا بعيدا وعميقا باتجاه جذور الظواهر ، واذا كان بعض كتبه الأكثر مبيعا في مرحلة ما فلأن الرجل تجاسر على نبش ملفات مسكوت عنها ، فاستقرأ التاريخ عميقا ولم يقرأه أفقيا ، لهذا كان محرضا على التفكير وتطوير الاسئلة البريئة الى مساءلات معرفية وأخلاقية.

ان هذه السلالة الخالدة عندما يتعرف اليها المرء عن كثب ويصغي الى زفيرها الساخن ويتأمل الشجن في عيونها الساهرة والمفتوحة على سعتها حتى في عزّ النوم ، تعلمنا كيف نبتكر الرجاء من صميم القنوط الأسود.

والجابري شيد عمارة فكرية أشبه بقلعة ، اذ لا يجوز ان تختزل غرفة أو رواق فيها هذا المعمار ، لهذا فان نقده يجب أن يليق به ، وبالطبع لمثل هذا النقد مقام آخر.

لقد أعاد الجابري تعريف التراث وحرره من مفهوم التركة أو الميراث ، وله تلامذة على امتداد خطوط الطول والعرض لعالمنا العربي ، لكن بعض المتحمسين لأطروحاته يسيئون اليه والى أمثاله ، لأنه ضد الألفية وتحصين النصوص ببوليصات تأمين سياسية أو ثقافية ، انه شأن أمثاله ، فاض عن مساحة تابوته وقبره ، وتفرغ لولادة ثانية،.

 
الدستور