ما قبل الدولة وما بعدها!

مصطلحان يزداد كل منهما غموضاً والتباساً بسبب تناقض السياقات التي يرد كلا المصطلحين فيهما ، وما قبل الدولة ليس فقط عدم استكمال النصاب التاريخي والحضاري لدولة ما ، بل هو غياب أحد أهم الأقاليم التي لا تقوم دولة بدونها ، اما الصيغ والتشكلات لما قبل الدولة ، فهي معروفة وذات صلة مباشرة بتطور النسيج الاجتماعي ، ويبدو ان ما يسمى حرق المراحل نحو الدولة ليس أمراً ميسوراً للبشر ، لأن كل تطور يتطلب تأقلماً مباشراً معه بدءاً من اساليب التفكير حتى مناهج التعامل مع الواقع ، وكان ابن خلدون سبّاقاً في التفريق بين تمدن حقيقي وآخر زائف ، ومن بعده جاء التفريق الشهير لازوالد شبنجلر ، عندما قارن بين مفهومي الحضارة والمدنية ، فالحضارة وثيقة الصلة بالعقل ومنجزاته وكذلك الروح والمعنى والهدف ، اما المدنية فهي عمران مادي وتمدد خارجي لا يعوّل عليه ، لأنه سهل التقويض ، وكان مثال هذا الفيلسوف في التفريق بين المدنية والحضارة ، اليونان والرومان ، فاليونان حضارة والرومان مدنية ، وعلى هذا الاساس بنى نعوم تشومسكي تصوره عندما قارن امريكا بروما القديمة واوروبا باثينا،.
ان مفهوم ما قبل الدولة او "ق. د" بدلاً من "ق. م" وهو قبل الميلاد ليس عسير التفكيك ما دامت هناك نماذج في الألفية الثالثة تؤكد ان مثل هذه التشكلات لا يزال قائما لكن الاعلام والواجهات الشكلية للدولة تحجب الحقيقة ، ومفهوم ما بعد الدولة بشر به ماركس ومثقفون من مختلف الأجناس رأوا ان الانسان لن يكون حراً ما دامت هناك دولة ، وهذا ما يقوله على سبيل المثال الشاعر ادونيس بوضوح ، وهو لن تعرف حرية ما دامت الدولة موجودة.
وفي منتصف المسافة بين مجتمعات تعيش ما قبل الدولة واخرى تحلم بالحياة ما بعدها ، يتضح لنا الاشتباك الدامي في أيامنا بين من يجرون الدولة الى الوراء ، ومن يحاولون القفز في الهواء الى امام ، وفي الحالتين ثمة سوء فهم يتفاقم بين الاطراف التي يشغلها السجال حول المسألة ، واعادة الدولة الى ما قبلها لا يتطلب الكثير من الجهد او المعجزة ، اذ يكفي ان تبدأ الهويات الفرعية الصغرى في التغذية كالاعشاب على جذور الهوية الام ، سواء كانت هذه الاعشاب طوائف او مذاهب او أعراقاً ، وقد يكون العراق المعاصر نموذجاً في هذا السياق ، فهو عريق في تشكله وحضارته وثقافته القادرة على صهر الجميع في بوتقة وطنية واحدة ، لكن أعواما قليلة اعقبت الاحتلال وتفكيك الدولة ومختلف أجهزتها ، أدت الى هذا المشهد الذي يندرج بامتياز في خانة ما قبل الدولة ، وليس ما بعدها ، واذا أفلح من ابتكروا هذه الوصفة التدميرية في تعميمها وتصديرها ، فان هناك في المنطقة دولاً ربما كانت الأقدم من غيرها ، تصبح عرضة للتفكك وانهيار الدولة ، وبالتالي تحولها الى مجموعات متناحرة تعميها النرجسية الطائفية او الاثنية عن رؤية المصير المحتم ، وهو خسارة الجميع ، فما من انتصار في مثل هذه الحرب الانتحارية ، فالهويات في النهاية ليست فولكلورا او مجرد تلبية لحالة من العصاب ، والثأرية المؤجلة ، وهناك بديهية معروفة تقول ان ضعف الدولة وبالتالي تداعيها وتذررها ، هو السبب الاول وربما الاخير في حروب أهلية تراوح بين البارد والمتفجر،.
بقي ان يسأل العرب انفسهم ، هل يعيشون ما قبل الدولة أم ما بعدها؟؟.
الدستور