الكلمة العزلاء !!

قالوها قبلنا بقرون وربما ألفيات ، ولم يكن كيتس أول من صرخ رافضا كتابة اسمه على الماء ، كما أن السياب لم يكن آخر السلالة ، وسواء كانت الكتابة على الماء أو الهواء أو الرمل ، فهي في النهاية مجرد شكل آخر للصمت ، اذ ما جدوى أن يصرخ الانسان في جرة أو علبة؟ وما هو حاصل جمع هذه الصيحات التي تلاشت على جدران اللامبالاة؟.
ليس تشكيكا بالكلمة ودورها ، فهي كانت منذ البدء وستظل حتى ما بعد الخاتمة ، لكن تحول الكاتب الى مجرد كومبارس بعد أن خسر دور البطولة في التاريخ انتهى بنا جميعا الى هذه الحيرة ، فهل أصبحت الكتابة مجرد مناديل ورقية صالحة للاستخدام مرة واحدة فقط؟ أم ان لها مفعولا مؤجلا؟.
ان ما نسمعه من الناس أحيانا يجدد العزم على المضي قدما في هذا الطريق الموحش الطويل الذي قال عنه ازرا باوند ينعدم فيه الماء والزاد والرفيق ، وقد يكون أنبل وليس أجمل ما كتب في الرثاء في تاريخنا ما قاله شاعر لزميله.. وهو لماذا رجعنا جميعا وأوغلت أنت ، اذن هناك من يعودون من الربع الأول للطريق وهناك من يوغلون حتى الموت.
ان الكلمة الآن أشبه بشيك بلا رصيد ، فهي منزوعة الدسم والفاعلية ليس لأنها عديمة القيمة ، بل لأن الأمية المزدوجة سياسيا ومعرفيا طردتها الى الهامش ، ولدينا في هذا الجحيم الممتد من الماء الى الماء ، أمثولات في الاستخفاف بالكلام ، فهو كما يقول عنه ممنوع من الصرف ، ومجرد ضجيج أو جعجعة بلا طحين ، لكن الذي أوصلنا الى هذا؟ هل هو فائض الأفعال الذي همش الأقوال أم الطفيليون الذين يرتدون لكل مناسبة قبعتها أو طربوشها أو عمامتها؟ الأرجح أن ما انتهى اليه الكلام من استخفاف مرده الى ذلك الطنين أو الضجيج المبهم الذي يريد قول كل شيء دفعة واحدة كي لا يقول شيئا مجددا.
نعرف أن العرب ضجروا من الكلام وانصرفوا عنه لأنه أشبه بوعود عرقوبية ، وقد تكون حكايتهم مع الذئب والراعي هي الأقرب الى توصيل الحال.
ما لم نقله بعد ، هو ما دمره الانفصام أو الشيزوفرينيا من رصيد الكلام وجدواه ، ما دام هناك أناس يقولون عكس ما يمارسون ، ولديهم الاستعداد للبرهنة على استطالة الأرض خلال دقائق اذا كان القول بأنها مستديرة يلحق بهم الأذى ، ليس المطلوب منا جميعا أن نكون جوتارنو برنو فتحرقنا محاكم التفتيش.
على اختلاف قضاتها ومعاييرها اذا قلنا الحقيقة أو اقتربنا منها ، فنحن اقرب الى غاليليو من صاحبه ، لأننا نجيد النجاة في الوقت المناسب ، وحين نقول.. ولكنها تدور لا يسمعنا أحد سوى أنفسنا،.
فهل ما يكتب الآن رغم وفرته هو مجرد خطوط على الماء أو الهواء أو الرمل؟ بحيث لا تعيش الكلمة أكثر من الثواني القليلة التي تكتب أو تنطق بها؟ ان من أفسدوا الماء والهواء وجرفوا التراب هم المسؤولون الآن عن فساد الكلام ، لأنهم اقترحوا علينا مقايضة تتلخص في عبارة واحدة هي قولوا ما تشاؤون ودعونا نفعل ما نشاء.
ولأن معظمنا قبلوا بهذه الصفقة ، فان الكلمة الآن هي مستقيم يوازي الفعل ولا يلتقيه على الاطلاق ، وها نحن بانتظار اينشتاين آخر يجترح لنا المعجزة فيعيد الاعتبار الى الكلمة التي كانت في البدء والتي صدعت بالكينونة كلها،،.