دا سيلفا بعد أردوغان

دخول أنقرة على خط الوساطة بين إيران والمجتمع الدولي ، أمر مفهوم ومتوقع ، فتركيا دولة مجاورة لإيران ، تربطها بها جملة من المصالح المتشابكة ، وهي دولة مشتبكة مع مختلف ملفات المنطقة ، بل ومع مختلف ملفات قوس الأزمات الممتد من الشرق الأوسط للقوقاز والبلقان ، وتركيا العدالة والتنمية طامحة لـ"تصفير" خلافتها مع الجميع ، توطئة لأدوار تتخطى نطاقات عمل السياسة الخارجية التركية التقليدية ومجالاتها الحيوية (أفريقيا مثلا).
ولقد تشجعت أنقرة على ملء عدة فراغات يشكو منها الإقليم: أولها الفراغ الناجم عن انكماش الولايات المتحدة وتضاؤل دورها في الشرق الأوسط. وثانيها ذاك المترتب على غيبة العرب وغيبوبتهم ، جراء تشظيهم وتآكل مشروعهم الحضاري ، في ظل هيمنة غير مسبوقة لنظم حكم مستبدة ، أو غير ديمقراطية على أقل تقدير.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو ذاك المتعلق بنجاح البرازيل في لعب دور مؤثر في واحد من أهم ملفات المنطقة ، وقدرة رئيسها لويس لولا دا سيلفا على المجيء بما عجزت دبلوماسية إقليمية ودولية عن الإتيان به ، وبالضد من التقديرات المتشائمة للرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف الذي يعطي مهمة دا سليفا علامة نجاح ، مكتفيا بعلامة 30( %) ومن باب المجاملة لرجل يزوره في قصر الكرملين. وعلى الرغم من انتقادات الوزير الفرنسي الطائش برنار كوشنير الذي حمل على مهمة دا سيلفا قبل أن تبدأ ، متسببا بحرج شديد لبلاده ورئيسه ، كعادته بعد كل تصريح يصدر عنه ، وينتهي باعتذار يصدر عن قصر الإليزيه.
لا ندري كيف ستنتهي "الصفقة ثلاثية الأطراف" التي أبرمت بالأمس وعلى عجل في طهران ، وهل ستعد "كافية" لوقف مسار "الدفعة الجديدة" من نظام العقوبات الدولية الذي عملت واشنطن طوال الأشهر الماضية على بناء إجماع دولي من حوله ، وإقناع مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين بالانضمام إليه؟. ولا نعرف ما إذا كانت إيران قد خرجت من عنق زجاجة العقوبات والتهديدات ، وهل هي النهاية السعيدة لأزمة برنامجها النووي؟. ونرى أن من السابق لأوانه التكهن بالكيفية التي سيتصرف بها العالم ، وكيف ستأتي ردود أفعال عواصمه الكبرى؟ وثمة أسئلة عربية تُستولد من رحم السؤال عن مغزى نجاح الوساطة المشتركة التركية- البرازيلية منها: كيف تنظر عواصم القرار العربي الكبرى (الرياض والقاهرة) لهذا الاتفاق؟. هل هي فَرًحَة بابتعاد شبح العقوبات والحرب والتصعيد العسكري؟. ماذا عن دور إيران الإقليمي المقلق لهذه العواصم أكثر من البرنامج النووي لطهران؟. هل سيتأثر هذا الدور سلبا أم إيجاباً؟. كيف سينعكس ذلك على احتمالات الحرب والتصعيد الجبهة الشمالية (سوريا ولبنان)؟. هل زادت فرص اندلاع حرب جديدة في الصيف أو الخريف القادمين ، أم تراجعت ، وكيف سيكون موقف إيران وردة فعلها في حال قرر الجيش الإسرائيلي الخروج إلى حرب جديدة ضد لبنان ، أو في حال تصاعد الموقف ليشمل الجبهة أو العمق السوريين؟. وأخيراً ، كيف تنظر عواصم القرار العربي للدور البرازيلي المتزايد في هذه المنطقة المستباحة على ما يبدو ، لكل الأدوار ، قريبا وبعيدها ، في غياب وغيبة أدوار أصحابها الأصليين؟ ثمة جهة واحدة وحيدة ، لا يصعب التكهن بردة فعلها على "الصفقة مثلثة الأضلاع" ، ألا وهي إسرائيل ، وهي عبرت على أية حال ، عن شكوكها بجدية الصفقة قبل أن تتناقل وكالات الأنباء تفاصيلها ، فلا شيء جيدا بالنسبة لإسرائيل إن لم ينطو على تدمير للمنشآت النووية ورموز القوة والاقتدار الإيرانية ، حتى الوجبة الجديدة من العقوبات لم تكن جيدة بما يكفي من منظور إسرائيل ، فقد ظل تل أبيب تطالب بالمزيد ، وتدعو لعقوبات فردية إلى جانب العقوبات الجماعية ، من داخل مجلس الأمن ومن خارجه ، ومن دون أن تتوقف عن تأكيد أن العقوبات ليست بديلاً عن الضربة العسكرية التي أصبحت ضرورة لمواجهة البرنامج النووي الإيراني.
الآن ، وقد تراجعت مبررات الضربة العسكرية ، وتقهقر خيار العقوبات أو هكذا من المفترض على أقل تقدير. الآن وبعد أن تفوّق تفاؤل دا سيلفا على تشاؤم ميدفيدف ، وتغلبت مثابرة أردوغان على طيش كوشنير ، فإن جنرالات إسرائيل ومتطرفيها يكادوا يختنقون بغيظهم ، فالترياق جاء إلى طهران من حيث لا تحتسب إسرائيل ، ومن دول لطالما عدّت صديقة لها ، بل أنها ما زالت في دائرة الاصدقاء التي تحتمل الخلاف والاختلاف.
إن هبّت الرياح كما تشتهي سفن الرُبانين دا سيلفا وأردوغان ، فإن اتفاق طهران الثلاثي سيدخل تاريخ المنطقة من بوابة المنعطفات والمنحنيات ، وسيكون له ما بعده ، لكننا نفضل التريث لمعرفة كيف ستتحرك دوائر اليمين الأمريكي - الأوروبي - الإسرائيلي التي تنشد التصعيد دوما ، ولا تبالي كثيرا بسقوط القواعد الأخلاقية لحروبها في المنطقة والعالم ، ولا يمنعها ذلك من مواصل البحث عن ساحات جديدة وأعداء جدد وحروب جديدة. نفضل الانتظار لكي نرى كيف ستأتي ردود أفعال عواصم القرار العربي ، التي لا تريد حربا تكون هي ساحتها وممولها ووقودها ، ولا تريد تسويةً تكون هي موضوعها وهدفها ، بدل أن تكون طرفاً فيها وراعياً من رعاتها .
الدستور