مجتمع «المول» يبتلع قلب عمان!

كتبت منذ زمن مقالا عن قلب عمان ، وتساءلت حينها: هل يتوقف عن النبض ، كان هذا منذ سنوات ، اليوم تحققت النبوءة ، وبدأ يتوقف فعلا،.
لوقت قريب ، لم يكن يصدق أحد أن منطقة "البلد" أو "وسط البلد" كما تسمى على لسان المواطنين ، التي كانت قلب عمان النابض قبل نحو عقدين من الزمان ، يمكن أن تتوقف عن النبض ، لصالح بؤر وتجمعات وشوارع بديلة ، أخذت تدب فيها الحياة ، وتعيش حالة كرنفالية يومية ، فيما شارع سقف السيل ، تبدأ تلفه العتمة مع الغروب،.
معظم أهالي عمان ، بل الأردن كافة ، لهم ذكريات خاصة مع "وسط البلد" فقد كان هو "البلد" كما كان يُسمى ، وكان يتعين على كل من يريد أن يتنقل بين جبلين ، أن "يتعمد" بسرفيس يتخذ من البلد نقطتي انطلاق وعودة ، وفي الأثناء تخطف أبصار المارين بين موقفي سرفيس ، بسطات صغار التجار ، وعروض مختلفة الأنواع لأشياء لا تتذكر شراءها إلا إذا رأيتها ، ومحلات تتباهى بعرض منتجاتها بخلاعة تشتهي معها امتلاكها ، حتى ولو لم تكن بحاجتها ، وكان نادرا على كل من يمر بوسط البلد أن لا يعود بمشتريات ، ربما لا لزوم لها ، لكنها تسللت إلى جيبه عنوة ، وكان وسط البلد أيضا ، يشكل مهرجانا للسلع الفاخرة ، أو على الأقل هكذا كانت تبدو في عيون عامة الناس ، حيث كان الفقراء وأصحاب التطلعات البرجوازية ، يتجولون في الشوارع ، إن لم يكن للشراء ، فللتعرف على أصناف من البضائع يسرون في أعماقهم أن يوما لا بد سيأتي ويشترون منها ولو شيئا بسيطا ، بعد أن "تتحسن" أحوالهم ، وكان وسط البلد أيضا مقصدا للجوعى ، حيث يستطيع أي معدم أن يحشو بطنه بوجبة طبيخ أو فلافل بمبلغ بسيط ، وإن لم يستطع فبوسع قطعة حلوى من تلك الأنواع المعروضة بغزارة على الأرصفة ، أن تسد جوعه وتكفيه ذلك اليوم ، وإلى هذا وذاك ، كانت محلات الألبسة توفر عروضا سخية لأنواع زهيدة من الملابس ، سواء من النوع الأوروبي المستعمل ، أو من يقف على حواف الجديد الذي يسمى "الستوك" أو "المرتجع" ، كما كان وسط البلد يوفر نزهة مجانية ، قوامها "الفرجة" على معروضات وأنماط مختلفة من الناس ، حتى إذا تعب "الزبائن" ، مالوا إلى محل عصير ، فبلوا ريقهم ، واستأنفوا فرجتهم،.
وبعيدا أو قريبا من كل هذا المشهد المتنوع ، كان سوق الجمعة ، الذي يمتاز بطقوس وعادات خاصة ، تحيل وسط البلد إلى كرنفال عجائبي ، حيث يبدأ أصحاب العروض بالتوافد لاحتلال مواقعهم على الأرصفة منذ مساء الخميس ، وبعضهم كان ولم يزل يتخذ الرصيف منامة له ، حتى يقطف ثمرة السوق من أوله،.
وسط عمان مجمد الآن ، لصالح مجتمع "المول" والشوارع الجديدة التي خطفت التجار والزبائن ، وبوسع أي عابر أن يستمع لشكوى مريرة من صاحب محل لم يزل متمسكا بموقعه وسط البلد ، نتيجة ضعف أو عزوف الناس عن ارتياد ذلك القاع الأثير وبالتالي انشغال معظم أصحاب المحلات الذين لم يزالوا يعمرون البلد بما يسمونه "كش الذباب"،.
جميل أن تتضخم عمان ، وتتوسع وتصبح مترامية الأطراف ، لكن الأجمل ، أن يتحول وسطها أو قلبها ، كما هو شأن "الداون تاون" في معظم المدن العريقة ، إلى قبلة لأنظار المواطنين والسياح أيضا ، عبر سلسلة مشاريع وأفكار خلاقة تعيد إحياء "البلد ،"، أو تحول دون توقف القلب عن النبض،.