لماذا لا يختار اللبنانيون رئيساًيختاره الخارج؟

للخارج، بدوله ومصالحه وثقافاته، دور فاعل في الداخل اللبناني. هكذا كان الأمر منذ أيام المتصرفية في عهد العثمانيين، مروراً بِ «دولة لبنان الكبير» في عهد الفرنسيين، ثم عقب الاستقلال في عام 1943، وصولاً إلى العهود السياسية المضطربة في الربع الأخير من القرن العشرين ولغاية الوقت الحاضر. هكذا أصبح الخارج قدراً عند معظم اللبنانيين، ولاسيما منهم أهل النظام في مختلف العهود.
الخارج هو مَن كان يسّمي الحكّام والرؤساء، والداخل كان يتولى «انتخابهم». يمكن القول إن هذه الحال استمرت بلا انقطاع لغاية انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في أواخر شهر مايو/أيار 2014. منذ ذلك التاريخ، وبسبب الاضطرابات التي واكبت انتفاضات «الربيع العربي» ثم الحروب التي أعقبت غزوات الإرهاب التكفيري في مشرق العرب كما في مغربهم، انحسر نفوذ دول الخارج وتراجع تأثيرها المباشر على بعض قوى الداخل. بكلمة، ما عاد معظم اللبنانيين، كما بعض أهل النظام، يتقبّلون فكرة أن يختاروا هم للرئاسة مَن يختاره لهم غيرهم في الخارج. لماذا انحسر دور الخارج وتأثيره ؟
لأن موازين القوى تغيّرت في المنطقة، ولعلها أصبحت تميل لصالح القوى المؤيدة لمحور الدول والتنظيمات التي تواجه التحديين الرئيسيين في هذه الآونة: «إسرائيل» والإرهاب التكفيري. غير أن بعض قوى الداخل في لبنان لا تتقبّل هذا التطور المستجد وتثابر على التصرف بوحي اقتناع راسخ بأن حلفاءها الدوليين والإقليميين قادرون، عاجلاً أو آجلاً، على التدخل لتسمية المرشح الذي يناسبها فيصار إلى انتخابه رئيساً كما في الماضي التليد.
الغريب أن اللاعبين الخارجيين في الساحة اللبنانية على طرفي المشهد السياسي حريصون، بواقعية، على إطلاق تصريحات ومواقف تفيد بأنهم يؤيدون للرئاسة المرشح الذي يتفق عليه الأطراف اللبنانيون، ومع ذلك لا ينفكّ بعض من هؤلاء عن الاعتقاد والتصرف بوحي اقتناع راسخ بأن كلمة السر ستأتي يوماً ما من الخارج فتستقيم الأمور وفق أهوائهم ومصالحهم.
إلى ذلك، ثمة سبب آخر بالغ الأهمية للتعقيد الذي يكتنف إمكانية اتفاق الأطراف السياسيين المتصارعين على مرشح مقبول للرئاسة. إنه حرص الأطراف جميعاً، ولا سيما القوى الوطنية الحية المستقلة عن نزاعات تكتلَيْ 8 و14 آذار، على معرفة بطبيعة قانون الانتخابات الجديد قبل الإقدام على انتخاب رئيس الجمهورية العتيد. وليس سراً أن معظم قوى 14 آذار تتمسك بنظام التمثيل الأكثري لأنه يؤمّن لها امتلاك الأكثرية اللازمة لتدويم بقائها في السلطة، في حين أن معظم قوى 8 آذار، المتأثرة بأكثرية اللبنانيين الناطقة في استطلاعات الرأي المتعاقبة، تطالب باعتماد نظام التمثيل النسبي كصيغة قانونية وسياسية فعالة لتأمين صحة التمثيل الشعبي وعدالته.
فوق ذلك، تُؤمن القوى الوطنية الحية بأن أي توافق على «انتخاب» أي رئيس جديد قبل إقرار قانونٍ للانتخابات على أساس النسبية إجراء غير شرعي من جهة ومدمر لمستقبل البلد من جهة أخرى. فهو غير شرعي لأن ولاية مجلس النواب انتهت العام 2013 وجرى تمديد ولايته مرتين الأمر الذي يتعارض مع أبسط المبادئ والتجارب الدستورية ويعطّل الإرادة الشعبية، إذْ لا يعقل أن يبقى التوكيل المعطى للنواب في ظروف ذات خصوصية سياسية واقتصادية واجتماعية معينة ساري المفعول إلى ما لا نهاية بتدبير غير شرعي وغير مشروع قوامه قيام النواب بتمديد الوكالة لأنفسهم بأنفسهم. فالوكالة، أصلاً، تُعطى لمدة معينة، ولا يجوز للوكيل، بكل المعايير القانونية، أن يمدد وكالته لنفسه بنفسه من دون موافقة الموكّل، أي الشعب ممثلاً بالناخبين.
تزداد الأزمة تعقيداً وخطورة بسبب لامبالاة بعض الكتل البرلمانية وعدم اكتراثها بالمشكلات الحياتية، الاقتصادية والاجتماعية والصحية وآخرها مشكلة النفايات، بل عجزها عن إيجاد حلول لها. كل ذلك سيؤدي، لا محالة، إلى تعميق أزمة لبنان المزمنة بكل جوانبها وأبعادها، وربما إلى اندلاع حرب أهلية.
إذ تتفاقم الأزمة وتتعقد على هذا النحو، أرى وغيري كثيرون، أنه محكوم على القوى الحية، داخل الكتل البرلمانية وخارجها، أن تتحسب لكل المخاطر المحدقة، فتخطط بالسرعة الممكنة لحركة جماهيرية ضاغطة على الشبكة السياسية الحاكمة بكل الوسائل الديمقراطية المشروعة والمتاحة لحملها على إقرار قانون للانتخابات على أساس النسبية تحت طائلة اللجوء، في حال امتناعها، إلى إقامة مجلس وطني للحوار والقرار (أو مؤتمر وطني) يتولى وضع القانون المطلوب على أساس أن يكون لبنان كله دائرة انتخابية واحدة، والعمل على اعتماده وبالتالي إجراء انتخابات شعبية بمعزل عن الشبكة الحاكمة المصممة على احتكار السلطة بعناد واستبداد موصوفين من أزلها إلى أبدها.
هل من نهج أفضل وأفعل؟
(المصدر: الخليج 2015-12-05)