النيل نجاشي !!

لم يكن لعبارة هيرودوتس الشهيرة مصر هبة النيل ما لها الآن من الدلالات ، وقد يكون السجال السياسي والقانوني والأخلاقي حول منابع النيل هو أول اشارة في الافق تنذر بما سمي قبل عدة عقود حروب الماء.. وقبل أيام كنت بصحبة صديق مصري في سيارته ، وعندما انعطفت السيارة من ميدان التحرير الى شاطىء النيل أسمعني من مسجل السيارة أغنية كنت قد نسيتها لمحمد عبدالوهاب هي النيل نجاشي ، والنجاشي لقب امبراطوري في الحبشة ، منذ أقدم العصور ، وأحسست على الفور أن المصريين الذين اعتادوا النيل وألفوه حتى نسوه بدأوا يستشعرون الخطر على مجراه ، فان شحت مياهه شحت الحياة والماء له دائما وجهان ، ان فاض يغرق وان شح يميت من الظمأ ، لهذا طالما قدمت العرائس العذارى الى النجاشي الأزرق كي لا يغرق البلاد والعباد ، هذا النهر العظيم الذي يأتي في المرتبة الثانية وفق ابجدية الأنهار قيل أن من شرب منه لا بد أن يعود اليه ، فهو ماء مسحور ، وثمة عرب كثيرون توضأوا من مائه ، واغتسلوا منه وأطفأوا ظمأهم من سلسبيله ، لقد قال د. جمال حمدان العالم الجيوبولتيكي الراحل وصاحب كتاب عبقرية المكان أن قدر مصر أن تكون عربية ، فالنيل يجري شرقا والقلوب تتجه جنوبا والشمس المتوسطية هي ذاتها التي تضيف غبار الذهب الى السنابل في مواسم الحصاد.
حروب الماء كانت منذ زمن طويل مدرجة في قائمة الحروب القادمة ، فالحروب لا اسباب محددة وخالدة لها ، لقد حدثت ذات يوم بسبب الملح ، مثلما حدثت أيضا بسبب السكر ، لهذا قال كاسترو عبارته الشهيرة لسارتر عندما زاره في الستينات أن الكوبيين وحدهم يعرفون مرارة السكر.
وعالمنا العربي الذي كان ذا قرون عجاف يتنقل في الصحارى بحثا عن الماء والكلأ كان قدره أن تكون منابع أنهاره من خارج حدوده ، لهذا فهو يخشى السدود ، ويعتبر الماء من أولويات أمنه الوطني والقومي ، فهو عالم ملدوغ من الظمأ ، وهناك فوبيا مائية زرقاء مكثت في الذاكرة.
ولم يظفر نهر في العالم بأغنيات وأناشيد وطقوس كالنيل ، انه توأم العاشق والفلاح والشجرة ، وعلى ضفافه تقف العذارى الخالدات أو عماتنا كما سماها الأسلاف وهي أشجار النخيل التي لا تنحني الا اذا كسرت أو جفت جذورها،
العرب الآن لا يدافعون فقط عن النفط أو ما تبقى من ماء الوجوه ، بل عن حقهم في الوضوء وغسل الموتى واغتسال الأحياء ، لهذا كان أمنهم المائي من أولويات ذلك الأمن القومي الذي ساهموا جميعا في اغتياله ، وبذلك جنت براقش لا على نفسها فقط ، بل على الأبناء وأحفاد الأحفاد.
النيل نجاشي ، سواء غناها عبدالوهاب أو بقيت محفورة تحت الطمي في القيعان القصية التي يصدر عنها حفيف شجي من العرائس اللواتي كن فدائيات للحيلولة دون الطوفان ، كم هي حروب العرب المؤجلة؟ وماذا أعدوا لها غير الخيام والسلام من طرف واحد؟
ان كل من شرب من ذلك النهر الخالد أو اغتسل بمائه أو أصغى الى فوارسه في لحظات الأصيل عليه الآن أن يدافع عن مجراه ، وعن ضرورته ، فهو كالهواء الذي لا نشعر بغيابه الا اذا أحسسنا بالاختناق ، شأن كل الأساسيات في عالمنا وحياتنا. لا نشعر بها إلا حين يهددها خطر ما أو تتعرض للفقدان،،
الدستور