الفضيلة.. وما شابه

ما قصة هذه الطائرات التي لا تني تتساقط و تتزايد حوادث سقوطها من السماء هذه الأيام ؟هل كان سقوط الطائرات على هذه الوتيرة المتسارعة في السابق، أم هي خيالاتي، أو تعب أعصابي ما يُضاعف من إحساسي بأن في كل يوم ، ثمة ما تُتحفنا به السماء،وما يسقط منها؟. حين سمعت عن الطائرة الهندية التي كانت مُثقلة برّكابها، ويفوق تعدادهم سكان قرية صغيرة، وقعت وتحطّمت بمن فيها، كنت أقرأ كتاب تيد ليونزيس:' صناعة السعادة' يورد لنا فيه كاتبه ستة أسرار يقول انها نافعة لتحقيق نجاح استثنائي في الحياة وفي العمل . كتاب من تلك الكتب التي تُبشّرك بأن فردوسك الأرضي على قاب ستة أسرار منك أو أدنى، بينما أنت غافل عنه .
كتاب تقرأه قبل النوم على نيّة سواك ، نيّة شخص إفتراضي في أحسن الأحوال . وكتاب للصدفة، كتبه صاحبه على شكل 'جردة' حساب لحياته بعد أن قضى خمسا وثلاثين دقيقة جهنمّية، في طائرة كان يستقلها ، تعرّضت للسقوط. محنة إكتشف من خلالها ليونزيس كم كان مخطئاً في نهجه الحياتي البائس وتصرفاته المُمّلة. فوراً بعد أن انتهت رحلته الجوية الخطرة والمرعبة، بهبوط إضطراري سالم، عمد الى إتحافنا بمبادئه الستة هذه التي تكفل لنا ' عمرا جديدا' نرفل فيه بالسعادة والحبور . ست مبادىء سلّمنا الكاتب مفاتيح أسرارها الكفيلة بدورها بإسباغنا بسعادة مطلقة. ستة مبادىء كتبها ليونزيس لحظة نجاته و مغادرته تلك الطائرة المشؤومة بركبتين مرتجفتين وبمعدة مضطربة وفنّدها لنا على الشكل التالي:
' تحديد الأهداف التي يجب العمل على تحقيقها'. 'المشاركة بأنشطة وعلاقات إجتماعية'. 'التعبير عن الذات عبر أيّ وسيلة ثقافية أو فنية أو رياضية'. 'إمتلاك القدرة على التعبير عن الإمتنان والتقدير'. 'التعاطف والإلتزام مع المجتمع مادياً ومعنوياً'. 'الإيمان بالله وتنشئة أجيال تتمسّك بالفضيلة'. ستة مبادىء ، أردف المؤلف إثرها ، ان في اتباعها من قبل القارىء ما يزيد من احتمالات بلوغ السعادة والنجاح. وأورد لنا كيف اختبر الأمر بنفسه. من جهتي ، أن تقع بي الطائرة من السماء وتتحطم على الأرض، أهون عليّ من اتباع بعض مبادىء ليونزيس، خصوصاً ذلك المتعلّق بالمشاركة بأنشطة وعلاقات إجتماعية .
ما علينا ، الكاتب الذي تعرّضت الطائرة التي كان يستقلها (في العام 1984) للسقوط، في رحلة روتينية من ملبورن في فلوريدا الى أتلانتا في ولاية جورجيا ، وكان قد باع لتوّه شركته ' نيو ميديا' لقاء مبلغ 60 مليون دولار( في ذلك الوقت) ما يعني أنه عرف الثراء في عمر مبكرجداً، بعد عوز وسكن في أحد احياء بروكلين الفقيرة، إنتهى بعد نجاة عجائبية الى انه لم يكن سعيداً في حياته ، واحتاجته خطة بديلة للسعادة، الى مثل تلك التجربة المُرة، ليتفتّق عقله عن مثل تلك المبادىء.
فكرّت وأنا أقرأ ليونزيس وأقرأ عن ثروته المهولة، أن بوسعه رفدي بشيء من ثروته، نذر قليل أعني، وأنا أُدبّر شؤوني وأتكفّل بالباقي ، من دون الحاجة الى مبادئه الستة، اللهّم سوى ذلك المتعلّق في شقه الأول بالإيمان بالله( والذي لا فضل للكاتب فيه) فهذا والله ما أنعم فيه ويسكنني ويُعينني على بلاء هذا العالم . أمّا الشق الثاني من المبدأ المقسوم قسمين ، والذي يُفتي بتنشئة أجيال تتمسّك بالفضيلة ، فهذا حكر على تعريف الفضيلة نفسها في زمننا الراهن . ذلك أنني لا أعتقد أن الكاتب الثري ثراءً فاحشاً جمع ثروته من الفضيلة تلك . كما أن المبدأ الآخر للكاتب ، المتعلّق بتحديد الأهداف التي يجب العمل على تحقيقها لبلوغ السعادة المرجوّة ! فمن جهتي أاعلن أن لا أهداف لي ، ولا هدف حتى ، فكيف بالعمل على تحقيقها وكل ما يمضنّي هو العمل نفسه، وجلّ رغبتي في هذه الحياة ، هي عدم العمل بالمرّة ، وحطّ رجل على رجل والتمتّع ببعض ثروة هذا الكاتب .
لم تكف الكاتب ، الذي نجا من الموت، ثروته (ونحمد الله حمداً كثيراً على سلامته) فجاء ليزاحمنا على الكتابة ، في كتابه الضخم كثروته 'صناعة السعادة' وكأن للسعادة مقاييس وتُقاس بالمسطرة ، فلا تختلف شروطها وتتبّدل ، من شخص مثله ، الى كائن هشّ ، مثلي .
القدس العربي