نحن والتقارير الدولية

ما أن تهدأ الضجة التي يثيرها هذا التقرير الدولي عن الأردن ، حتى يثور الضجيج مجددا حول تقرير آخر ، صادر عن منظمة أخرى ، وفي حقل آخر ذي صلة من حقوق الانسان والإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي ، ويحضرني الآن على هامش الجدل الذي انطلق خجولا حول التقرير الأخير لـ"أمنستي إنترناشنال" ما سبق لتقرير "هيومن رايتس ووتش" أن تسبب فيه من نقاش ، وما ترتب على تقرير "فريدام هاوس" الذي أنزل الأردن من خانة الدول "الحرة نسبيا" إلى خانة "الدول غير الحرة" ، ما ترتب عليه من تداعيات وتفاعلات.
في السجال مع هذه المنظمات الدولية ، تنقسم النخب الأردنية ، ، إلى شيع ومدارس : البعض يرى "نظرية المؤامرة"تقطر من سطور وكلمات هذه التقارير...البعض الثاني يستحضر ما يمكن تسميته بـ"نظرية رغيف الشعير" التي تعبر عن إحساس عميق يسكن كثيرين منّا بالاستهداف...والبعض الثالث يرى المسألة بمجملها في سياقها وحجمها ، ويدعو للتعامل مع هذه التقارير بما توجبه من إصلاح وتطوير في أدائنا بدل صرف الوقت والجهد والطاقات في النفي والتنديد والتفنيد.
المسكونون بهواجس "نظرية المؤامرة" يرون أن هدف هذه التقارير الأجنبية هو إضعاف الأردن واستهداف جهازه المناعي ، توطئه لتمرير مشاريع ومؤامرات...هؤلاء يرون أن هذه التقارير والمنظمات والدول التي تقف وراءها ، ليست بريئة من "تهمة التآمر على البلاد والعباد"...بيد أن هؤلاء ينسون أو يتناسون حقيقتين اثنتين: الأولى ، أن الكثير من المعطيات التي تتضمنها هذه التقارير الأجنبية سبق لمنظمات أردنية وطنية مماثلة أن ضَمّنتها تقاريرها المحلية ، بدلالة ما يصدر عن المركز الوطني لحقوق والانسان وغيره ، من تقارير دورية وغير دورية حول هذه العناوين ، وما تنتهي إليه عادة ، من خلاصات مشابهة.
أما الحقيقة الثانية التي يتناساها هؤلاء ، فهي أن الجهات التي تصدر هذه التقارير والدول التي تموّلها ، هي ذاتها الجهات التي يعتز الأردن ، "الرسمي" على الأقل ، بصداقتها وعلاقاتها الوثيقة مع بلادنا ، بل أننا طالما استمعنا من كبار المسؤولين الأردنيين إلى عبارات التثمين الجذلى الصادرة عن هذه الدول و"الجهات" للدور الذي يقوم به الأردن ، ودعمها سياسيا ومعونيا ، و ماديا وماليا للأردن وخزينته واقتصاده وتجارته وبرامجه ، فكيف تكون هذه الجهات صديقة لنا سياسيا واقتصاديا من جهة ومتآمر علينا "حقوقيا" من جهة ثانية ؟.
وعن إصحاب "نظرية رغيف الشعير" ، المأكول والمذموم ، فحدث ولا حرج ، هؤلاء تطغى الشكوى الممزوجة بمشاعر الغبن والظلم على خطابهم ، يسكنهم الإحساس بمشاعر الضحية والرغبة بتقمص "دورها ومكانتها" ، يعتقدون أن أيادينا البيضاء الممدودة ، لطالما قوبلت وتقابل بأيادي الغدر والحقد والاستهداف ، يظنون أن ليس للعالم من وظيفة سوى التآمر علينا ، علماً بأن ما يصيبنا من تقارير المنظمات الدولية أقل بكثير مما يصيب الكثير من دول العالم أعتقد انه آن الاوان التخلص من "دور الضحية ومشاعرها" فهو لم يعد مقنعا أبدا ، كما أنه لم يكن يوما لائقا بنا.
إذا كان ثمة من درس يتعين علينا استيعابه من تجاربنا مع تقارير المنظمات الدولية ، فهو بؤس النتائج التي أفضت إليها مدرستا التفكير السابقتين ، فلا هذه ولا تلك ، نجحت في استجلاء الصورة وتبييضها ، أو كانت قمينة برد الادعاءات والمزاعم والمعطيات والمعلومات ، وقد آن الأوان لتفكير جديد.
والتفكير الجديد يفترض الإجابة العميقة على أسئلة هذه المنظمات القطيعة ، وانتهاج أسلوب "سد الذرائع" من خلال مراجعة سجلاتنا في مجال حقوق الإنسان والإصلاح السياسي والحريات العامة والتحوّل الديمقراطي ، فكلما قطعنا خطوة في هذا الاتجاه وعلى هذا الطريق ، كلما أمكن لنا أن نشطب فقرة أو صفحة من هذا التقرير أو تلك الرسالة ، فالعالم أصبح قرية صغيرة قولا وفعلا ، ومن يريد لصورته في العالم أن تظل نظيفة جدا ، من يريد أن يؤتى على ذكره بكل خير في تقارير المنظمات الدولية المختلفة ، فاليحرص على معالجة نواقص تجربته بنفسه ، وقبل أن تصبح مادة للتقارير والأوراق والرسائل المتبادلة.