«ريح شيطانية» تهب على «شرق المتوسط»

شهدنا بالأمس كل ما يمكن وصفه بـ"طقوس" الهوان العربي: عواصم تتحرك بتثاقل وتستيقظ متأخرة على الجريمة التي امتزجت بخيوط الفجر ، ردات فعل "مذياعية" لا تتخطى البيان "المتأخر" لأغراض الدرس والتدقيق ، وتحذيرات لإسرائيل من مغبة الاستمرار في مقارفة الجرائم ، لكأن تحذيراتنا السابقة لها أجدت نفعاً... حتى الاستدعاء الخجول للدبلوماسيين الإسرائيليين ، بات "فولكلوراً" لا يُطرب أحداً.
لكن "الهوان" العربي بلغ والحق يقال مبلغاً عظيماً في حديث الناطق باسم الخارجية المصرية لراديو "بي بي سي" ، فهو قال رداً على سؤال لماذا لا تستدعون السفير المصري في تل أبيب بالقول: لو أننا استدعيناه في كل مرة تقترف فيها إسرائيل عملا من هذا النوع ، لما مكث يوماً في مكتبه ، أنظروا بالله عليكم أي درك بلغته الدبلوماسية العربية ، أنظروا كيف يريدنا هؤلاء أن نعتاد العيش والتعايش مع الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بلا انقطاع ، حتى من دون ردات فعل خجولة ، وهل تستغربون والحالة كهذه ، قول بينيامين بين أليعازر "فؤاد" ، بأن في مصر من هو ذخر استراتيجي لإسرائيل؟،.
وقبل أن نلوم العرب والزعامة المصرية المتآكلة لهم ، لا بد من توجيه سهام اللوم إلى القيادة الفلسطينية "التاريخية" في رام الله ، التي عوّدتنا على الصمت دهراً والنطق كفراً ، هي التي لم تحرك ساكناً لجعل مهمة أسطول الحرية ممكنة ، بل ويقال أن بعض أجنحتها تآمر لمنع القافلة من بلوغ شواطئ غزة ، وهي تكتفي كما جرت العادة أيضا ، بإعلان الحداد وربما إضاءة الشموع ، فيما تستمر الرهانات في اليوم التالي على حالها ، وغدا أو بعد غد ، سيطالعنا الرئيس عباس بتصريح يعرب فيه عن ثقته بأن السلام ممكن خلال أسبوع إن جنح نتنياهو له ، وأن البديل عن المفاوضات العبثية المزيد منها ، وأنه نَذَرَ نفسَه بأن يكون آخر الرصاص وآخر الحجارة.
لم تعد تأخذنا ردات الفعل "الطقسيّة" التي تصدر عن رام الله أو العواصم العربية ، فنحن نعرف وهم يعرفون والأهم أن واشنطن وتل أبيب تعرفان ، بأنها لن تبدل حرفا واحدا في أجندتنا لليوم التالي ، سنظل نقوم بأعمالنا كالمعتاد business as usual ، وستواصل إسرائيل جرائمها كالمعتاد أيضاً ، وستلقى جريمة "شرق المتوسط" مصادر غولدستون وتقريره ، لأن الحق العربي ليس وراءه مطالب كما يقال ، فأصحاب هذا الحق منصرفون إلى هموم وأولويات أخرى ، ليس من بينها نصرة الحق الفلسطيني في فلسطين ، وبما يستحق ويستوجب.
حتى على المستوى الشعبي العربي ، ستكون هناك ثورة غضب قابلة للاحتواء ، تتغذى بالبث الفضائي المتواصل ، وتتعزز بالروح التركية الوثّابة رسميا وشعبيا ، روح أردوغان التي تلهم ملايين العرب ، وشكراً لـ"الجزيرة" التي أصبحت اللاعب الأول على مستوى الشارع (الشوارع) العربية ، ولا أدري من دونها من كان سيحرك هذه الجماهير ويخرجها عن رتابة يومياتها ، ويؤسفنا أننا أمة لا تعرف الصبر والجلد والتراكم والبناء على بناء ، أمة ذاكرتها مثقوبة ، تطفو على شبر ماء ويذهب هديرها جفاء ، فالشوارع ستودع الجماهير كما استقبلتهم بكثير من رجال البوليس والدرك والجندرما والعسس وزوار الفجر ، وسنعود للإشادة بأولياء النعم عند أول لقاء مع مقدمي برامج البث المباشر وصباح الخير يا عرب.
ما الذي نحتاجه أكثر من هذه الجريمة وما سبقها من الجرائم لكي نصحو ، ما الأمر الذي إن ارتكبته إسرائيل أصبح نقطة تحول لها ما قبلها وما بعدها ، ما الفعلة التي إن قارفتها إسرائيل لن نظل على ما كنّا عليه من هوان وتخاذل ، ولن نبقي معه على خياراتنا البلهاء القديمة التي جرّبت مراراً وتكراراً من دون جدوى ، ونبادر للبحث عن بدائل وخيارات جديدة؟.
يبدو لي أن سؤالا كهذا لا يقلقنا ولم يعد مطروحاً على جداول أعمالنا ، والأرجح أن إسرائيل وهي تختبر في لبنان "عقيدة الضاحية" وفي غزة "الرصاص المسكوب" وفي "شرق المتوسط" الريح الشيطانية التي أُسميت زوراً الريح السماوية ، باتت مطمئنة إلى محدودية ردات فعلنا وعدم فاعلية طقوسنا وفولكورنا.
لكن وبرغم هذه الصورة القاتمة ، فإن ثمة ضوءا تركيا ودوليا في نهاية النفق ، فالعالم أصبح أقل تسامحاً مع إسرائيل بخلاف حكامنا ، والعالم ضاق ذرعاً بجرائمها بخلاف الناطق باسم الخارجية إياه ، وتركيا تقود التحولات في المنطقة ، ليس من منطلق "عاصمة الخلافة" كما قال اسماعيل هنية الذي يفقدنا في كل خطاب من خطاباته شرائح إضافية من المتضامنين مع فلسطين وغزة وشعبها المحاصر ، بل من منطلق القوة الناعمة التي تتوفر عليها ، قوة النموذج الذي لم تستطع حماس حركة وحكومة أن تستلهمه ، بل وتريد أن تقرأه بما لا تريد أنقرة ولا تشتهي ، تريد أن تقرأه إسلامويا فيما أنقرة تفكر مدنيا وديمقراطيا وعلمانيا ، تفكر بقوة النموذج الذي لم تتوصل حركاتنا الإسلامية إلى صياغة ما يشبهه بعد.
طوبى لأبطال أسطول الحرية فقد أيقظونا على خوائنا وأيقظوا العالم على وحشية الإسرائيليين وبربريتهم... طوبى لهم ودماؤهم الزكية تسبقهم إلى شواطئ غزة التي طالما حلموا بغسل أقدامهم في مياهها... طوبى لهم وهم يقاومون بأجسادهم سلاحي الجو والبحرية الإسرائيليين ، والمجد والخلود لشهداء الحرية الأبرار.
الدستور