السلطة والمصالحة: «عودة وعي» أم «خطوة استباقية»؟

ثمة فيض من الأسئلة والتساؤلات يجتاح المراقبين الذي تابعوا بكثير من الاهتمام وقليل من الدهشة ، قرار القيادة الفلسطينية تكليف وفد برئاسة رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري ، بالتوجه إلى غزة لاستئناف ما انقطع من جهود استعادة الوحدة والمصالحة الوطنيتين ، الوفد سيضم إلى جانب المصري ، أعضاء في اللجنتين التنفيذية للمنظمة والمركزية لفتح وأمناء عامين لفصائل أو بقايا فصائل فلسطينية لم نعد نتذكرها إلا من خلال الصور المبثوثة عن اجتماعات المقاطعة في رام الله.
من هذه الأسئلة والتساؤلات: لماذا الآن؟. وما الجديد المختلف هذه المرة؟. هل نحن أمام مناورة لاجتذاب جزء من التعاطف الذي حظيت به حماس والعطف الذي خُصّت به غزة؟. ام أننا أمام مؤامرة - على حد قول أيمن طه من حماس - لصرف الأنظار عن "جريمة شرق المتوسط"؟. هل يعقل أن تكون مجرزة أسطول الحرية أشد هولا على السلطة من مجزرة الرصاص المسكوب على غزة ، لماذا تحركت الآن ولم تتحرك زمن المجزرة الأكثر دموية في القطاع؟. ما الذي تغير حقيقةً؟ في ظني ، وليس سوى بعض الظن إثم ، أن قيادة فتح والسلطة والمنظمة والرئاسة ، قرأت جديداً في اتجاهات هبوب الريح في المنطقة ، من هذا الجديد أن الحصار الجائر المضروب على القطاع ، قد أخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ولم يبق منه أو عليه ، سوى ربع الساعة الأخير ، وأنه يتحول مع الأيام إلى عبء على "المُحاصًرين" لا أداة ضغط على "المُححَاصرين" فحسب ، والسحر كما يعتقد كثيرون أخذ ينقلب على الساحر ، والشجاعة صبر ساعة ، وأسطول الحرية بشّر بفجر الحرية الذي سيشرق على غزة قريباً.
ومن هذا الجديد الذي قرأته القيادة الفلسطينية بلا شك أيضاً ، أن العالم بدأ ينظر لحماس نظرة مغايرة ، فالحركة التي كانت حتى الأمس القريب "إرهاباً خالصاً" وفقاً لتصنيفاته ومعاييره ، تندرج في سلة "القاعدة" وتفريعاتها وأخواتها ، لم تعد كذلك بعد أن بدأت تلحظ بعداً إضافياً مكوناً لحماس ، هو البعد الوطني الذي يدرجها في خانة "حركات التحرر الوطني" ، التي وإن كانت غير مرغوبة وغير محبوبة لدى أوساط غربية وعربية رسمية واسعة ، إلا أنها حركة صاحبة قضية وطنية ، وليست منظمة مهجوسة بالجهاد العالمي المفتوح على الزمان والمكان وشتى الأهداف.
ومن آيات هذا التحوّل في النظرة إلى حماس ، سيل الوفود الغربية (الأمريكية) التي تؤمّ دمشق وغزة وبيروت من دون انقطاع ، ولقاء مشعل ميدفيدف الذي كان وسيكون له ما بعده ، والحراك التركي الذي يضع حماس في مكانة متقدمة على أجندته. ومن آياته أيضا ارتفاع الأصوات المنادية جهاراً نهاراً حتى داخل إسرائيل نفسها ، بفتح حوار مع حماس ، كما أن السعودية ، والرواية على ذمة الراوي ، قد بدأت فعلا في تعديل مقاربتها ، فبعد التبني لفريق فلسطيني بعينه ، وأحيانا لبعض أركانه الأكثر دموية وتطرفا من جنرالات الأمن البائدين ، أخذت المملكة تتحدث بلغة متزنة ومتوازنة عن الانقسام الفلسطيني ، وأخذت تخرجه تدريجياً من دائرة هواجسها الإيرانية و"الشيعية" التي لا تخفى على أحد.
في مثل هذه الظروف ، تأتي "عودة الروح" لمبادرات المصالحة والإصلاح الفلسطينية كما لو أنها هجوم استباقي ، يقوم به فريق من الفلسطينيين بهدف إتمام صفقة المصالحة على عجل ، وبشروط يعتقد أنها مواتية له ، تفاديا لوضع سيجد نفسه فيه مضطرا لإبرام الصفقة بشروط غير مواتية ، حتى لا نقول بشروط الفريق الآخر.
عامل الزمن والحصار الذي أريد له أن يكون سيفاً مسلطاً على حماس وأنصارها ، وأداة تدمير ذاتي منهجي منظم لحكم الحركة في غزة ، أخذ يتحول مع الوقت إلى عامل ضغط على الفريق الآخر فلسطينياً وعربياً (مصرياً بشكل خاص) ، بعد أن ضجر العالم من غطرسة القوة الإسرائيلية الغاشمة وأثقلت مأساة أهل القطاع ضمير العالم بأسره ، أضف إلى ذلك أن ما يسمى "فرصة أوباما" و"مسار ميتشيل" قد باتا وراء ظهورنا تماماً ولم يعد لهما من وظيفة سوى "تقطيع الوقت" وتوفيره لإسرائيل. وربما لكل هذه الأسباب مجتمعة ، رأينا الذين تمنعوا طويلاً عن "التنازل من أجل الوحدة" ، ورفضوا أي لقاء مع حماس قبل أن توقع صاغرة على الورقة المصرية من دون قيد أو شرط ، وقد قرروا الذهاب بقضهم وقضيضهم إلى "الكيان المتمرد" للقاء الحركة الخارجة على القانون والشرعية ، والمختطفة من قبل إيران وفقا لآخر حديث للرئيس الفلسطيني مع إحدى المحطات الفضائية قبل أيام فقط.
ليست "عودة للوعي أو الروح" ، ولا هو الضمير الوطني وقد استيقظ مغلباً حسابات الوطن والقضية على حسابات السلطة والفصائل ، فما حصل في غزة قبل عامين كان أشد إيلاماً على النفس والضمير مما حصل في شرق المتوسط بالأمس ، يومها لم يعد الوعي ولم يستيقظ الضمير. إنها حسابات السياسة وتحسّاباتها التي تملي على أصحابها الاستعداد لمواجهة "الانقلابات" المنتظرة في المزاج والتوجه العالميين ، سواء حيال غزة والحصار ورفح والمعابر ، أو حيال حماس حركة وحكومة وقوة أمر واقع على الأرض.
وغدا سنتناول الكيفية التي تلقت بها حماس"قفاز التحدي" الذي ألقت به رام الله في وجهها.
الدستور