اقتراحات وسيناريوهات للتعليم

(أقدم المقترحات التالية، لا كبديلٍ عن التحرك العربي والإقليمي ضدَّ إسرائيل، ولكن لأني أؤمن بأن بناء النهضة العربية، وخصوصاً جهاز التعليم العربي، سيوجد حكومات وأنظمةً عربية محترمة وذات هيبة، توقف سيل الاعتداءات المتكررة علينا، وتجعل سورنا عالياً فلا يقفز من فوقه كلَّ ما هبَّ ودبَّ).
ترى ما الذي سيحدث لو أنَّ الجامعات الأردنيَّة قرَّرت أن تكون معدلاتُ القَبول فيها للطَّلبة الجُدُد في الطبِّ والهندسة لا تقلُّ عن سبعين، بينما يرتفع مُعدَّل الالتحاق بالآداب والكليَّات الإنسانيَّة والفنون فلا يقل عن تسعين؟ هل من الممكن مثلاً أن يتدفَّق المتميّزون والمتميِّزاتُ وأصحاب المعدَّلات العالية على هذه الكليَّات؟
وهل ستخلو ساحة الطبِّ والهندسة من الطَّلبة، لأنَّ الكُسالَى الذين يجرّون خطاهم لن يتجرؤوا على الاقتراب من تلك التي لها تاريخ مع (العباقرة)، مثل أنهم لن يُقبَلوا في الكليَّات التي عُرِفَ عنها التساهل في القبول وفي التعليم؟ وعندئذٍ فليذهب ذوو التحصيل العلميِّ الهزيل إلى خياراتٍ في الحياة، ليس منها التحكُّم في مصير الأجيال.
قد لا يكفي هذا السيناريو لفتح كليات الآداب والإنسانيَّات والفنون (التي يعتمد جهاز التعليم على ما تنتجه) أمام أولئك المُجِدِّين المثابرين ومتحملي المسؤولية، وإغرائهم بها.. فإنَّ اللامعين من طلبة الثانوية إنما تكون عيونهم على المهنة التي تحظى باحترام المجتمع أولاً، وبالوافر من الدَّخل بعد ذلك... وإلا ما الذي سيتغير عليهم لو أنَّ مهنة التَّعليم قد استعادت احترام المجتمع لها؟ وأصبحت مرموقةً وذاتَ هيبة؟ وكيف يكون احترامٌ وهيبةٌ والأجرُ ملاليم (فالمجتمع يترجم احترامه للمهنة بما ينفق عليها وما يحدده لأجورها)؟ وما الذي سيمنع عندئذٍ لو كان دخل مهنة التَّعليم لا يُقصِّر عن مهنة الطبِّ أو الهندسة؟ ولِمَ من المقبول أن يحظى اللواتي والذين يُعنَوْنَ بصحَّة الجسد (الأطباء)، أو بإنشاء العمائر (المهندسات والمهندسون)، بأعلى الأجور، بينما يحظى الذين واللواتي يُعنينَ بصحَّة العقل ومهاراته والنَّفس وإمكاناتها (المعلِّمات والمعلِّمون) بأدناها؟؟
قد يُقال إنَّ دراسة الطبِّ والهندسة مكلفةٌ، فثمَّة مختبراتٌ وأجهزة باهظةُ الثمن، وسنواتُ دراسة أطول، وموادّ دراسيَّة ثقيلة تحتاجُ إلى تبتُّلٍ في محراب العلمِ واجتهادٍ! وأقول: إنَّ طلبة كليَّات العلوم (وهي كليّات تعتمد على المختبرات المكلفة) تتساوى في الرواتب في جهاز التعليم مع تخصصاتٍ أخرى، وكذلك الأمرُ مع خرِّيجات وخريجي كليّات الرِّياضة البدنيَّة، إذ لا ينبغي أن ننسى كم تكلف الملاعب والمسابح وأجهزة اللياقة البدنية.
ثمَّ من قال إنَّ الدراسة في الكليّات الإنسانيَّة لا تحتاجُ إلى تبتُّلٍ في محرابِ العلمِ، وانصرافٍ كلّيٍّ إلى الدرس والاجتهاد؟ ثمَّ، إذا كانت حياةُ الناس وصحَّتها الجسديَّة (وهي مهمة ثقيلة) من مسؤوليَّة الطبِّ، فإنَّ معظم حياتها الذهنيَّة والنفسيَّة والمعرفيَّة والروحيَّة (وهي مهمة أثقل) من مسؤولية خريجي وخريجات الكليَّات الإنسانية!
وأقول أيضاً: إنَّ على البلد الذي يُريدُ لمعادلته التربويَّة والتعليميَّة أن تكون ناجحة ومثمرةً، أن يبذلَ مجهوداتٍ خارقةً وتضحياتٍ ماليَّة باهظةً (تُسمى الآنَ استثماراً) لكي يُراهنَ على مستقبلٍ مضمون النتائج، يجعله (البلد) يقف على قدم المساواة مع تلك الدول المليئة التي تقرِّر مصيرَه ومصير رعاياه، والتي تحرص على أن يكون بنيانها التعليميُّ، ومن ثمَّة العلميّ، ومن ثمَّة الاقتصاديّ والحضاريّ، شامخاً.
وذلك يتطلَّبُ أن تنصرف الدولة إلى مشروع إصلاح التعليم بما يشبه ثورة معرفية، تؤجَّل معه مشاريع الإنفاق الأخرى عدداً من السنوات، ستتبين بعدها أيَّ أفقٍ عالٍ ينفتحُ أمامها.