وصية فُرقان !

فُرقان هو أصغر شهيد سنا في باخرة الحرية ، كان في لحظاته الوداعية كما يروي شهود العيان يكتب باصابع واثقة على دفتر صغير ما يشعر به وكان متأكدا انه سوف يمهر البحر المتوسط بدمه ، وما كتبه لم يكن وصية بالمعنى التقليدي لكنه بيان الحياة ضد الابادة ، واستجابة الاحياء لتحدي القرصان الاعمى.
فُرقان لم يعقد قرانه على عروس البحر ، ولم تزفه الامواج الى ذلك المنصب المقدس ، لانه ابن التاريخ لا الاسطورة ، وقرر منذ الابحار ان يدافع عن اطفال فلسطين حتى الموت. لم يستطع ان يهديهم لعبة او سنبلة او دفترا لكنه اهداهم دمه. وحين يكبرون سوف يتذكرون في كبرياء وشجن ذلك الشاب الذي تناول عشاءه الاخير المتقشف وهو قاب رصاصتين او ادنى من غزة.
هو انسان اولا ، قبل ان يكون تركيا او من اية جنسية اخرى ، لهذا احس بالخجل مما يجري في الزمن الذي ولد فيه ، وكان امامه شأن الملايين ممن حلقوا شعر الرأس وتدلى الموبايل على خاصرتهم كالمسدس ان يقضي لياليه في علاقات وهمية مع شبان وشابات وجدوا انفسهم في مهب العولمة بلا بوصلة او هدف. انه البرهان الحاسم على فشل الميديا الداجنة والمسيّرة في غسل الذاكرات والادمغة حتى لو نجحت في غسل الاموال.
فُرقان اسم حركي لعشرات اصبحوا مئات ثم آلافا وملايين ، ممن قرروا ان يدافعوا عن امتيازهم الآدمي في هذه الحقبة الصفراء التي اريد لها ان تكون نهاية التاريخ وخاتمة الانسان،.
كم اعتذر لفُرقان عن موته نيابة عني وكم اود ان اهديه قلمي ودفتري وما تبقى فيّ من اقبال على الحياة.
ماذا تفعل لمن تركك مسترخيا على سريرك في غرفتك البعيدة عن مهدك وقبرك معا وسعى بقدميه الى حتف محتم؟. انت حبر وهو دم ، وانت هنا وهو هناك وانت لست انت وهو هو.. ولا احد سواه.
انه وشم اخضر على جذع كل زيتونة وصفصافة في بلادنا. وهو الحناء الذي يضمخ اصابع صبايانا في كل عرس ، لانه مات دفاعا عن حق الاخرين في الحياة.
وصية فُرقان التي لم يكتبها بل تناقلتها الامواج وهي تروح وتغدو بين الجليل وغزة وبين اب انكره الابناء وام بتر ثدييها ابن عاق لانها جاعت ولم تأكل بهما.
هذه الوصية يقرأها البحر في كلّ مدّ ، وترددها الاشجار في كل حفيف ، وسوف يحملها الينا في هذه الزنازين المؤثثة والمكيفة الهواء اول سنونو يعلن الربيع القادم. لو كان يقبل الاعتذار لاعتذرت له حتى القيامة لكنه لم يكن ممن يراجعون انفسهم في اخر دقيقة قبيل اطلاق النار على رأسه ، عرف جيدا كيف يموت لانه عرف جيدا كيف يعيش ، فالحياة حين تكون حرية ليست نقيضا للموت عندما يتحول الى قيامه.
انه الان في حوار حميم مع راتشيل كوري رغم اختلاف اللغات ، يضمد ما مزقت الجرافة من جسدها وهي تلملم ما تطاير من اوراق دفتره لحظة اطلاق النار عليه.
هو فلسطيني من تركيا وتركي من فلسطين لان الحدود الوهمية الان قد محيت بين الانسان والانسان بعد ان تحددت هوية القاتل مثلما تحددت هوية القتيل.
الدستور