بوديا سنغ ونِخاسةُ الأطفال

عندما عُرض في 1994 فيلم "فوريست غامب"، من تمثيل النجم الأميركيّ توم هانكس، رأى كثير من الناس أنَّ الفيلم مبالغة هوليوودية. فالقصَّة تروي حياةَ بطلِ جَرْيٍ أميركيٍّ مُتَخيَّل، في الأصل هو طفل محدود الذكاء ويسير على دعامات حديدية لساقيه. إلا أنَّ صديقة الطفولة الوحيدة "جِني" جعلته يُطلق ساقيه الهشتين للريح فعلاً هرباً من مضايقات أنداده، فيشبُّ ويصبح بطلاً. وفي لقطات أخاذة يرينا المخرج فوريست وهو يقطع الولايات المتحدة بالعرض، بينما تمرُّ عليه الفصول الأربعة. هذا المنظر الذي لا يُنسى على الشاشة رأيته قبل أيام على محطَّة "العربيَّة" في فيلم وثائقي عن أصغر عدّاء في العالم "بوديا سنغ" الهندي. وبينما كان الفيلم الهوليوودي يتحدث عن عدَّاء مكتمل الرجولة، فإنَّ بوديا له الآن أربع سنوات فقط!! وقد بدأ الجريَ قبل عامٍ أي وعمره ثلاث!!!
كيف حدثَ هذا؟
القصة وما فيها أنَّ بوديا ولد في أسرة تقع في قاع الفقر الهندي الشهير، مع أبٍ سكيرٍ وعاطل عن العمل وسيئ الطباع طبعاً. ولما كانت الأم هي التي تكسب لقمة العيش، شأن معظم الأسر الفقيرة في العالم بينما الأزواج متبطِّحون في المرض أو البطالة وسوء الخلق والمعشر، فقد باعت الأم ابنها لمدرِّب جودو، يشتري الأطفال المعدمين ليدرِّبهم ويُعِدَّهم لمبارياتٍ محليَّة ودوليَّة، فيتكسَّبُ بهم.
استغلال الأطفال، من دون أي مراعاة لقدراتهم الذهنيَّة والنفسيَّة والجسديَّة مع القسوة المفرطة في التدريب، كان العنوان الكبير في حياة هذا الطفل الذي يعدو كلَّ يوم عشرين كيلو متراً، في طقس استوائي لا يرحم، من دون أن يَسمح له والده بالتبنّي ومدرّبه ومُقتنيه، بقطرة ماء في أثناء الجري، بزعم أنَّ الماء تضر بصحته!!!!. بل وأقسى من ذلك أنَّ هذا الطفل، الذي يشكو من فقر دمٍ وهزال واضح، يشارك في مسابقاتٍ للجري في ولايته وخارجها، قطع في آخرها ستين كيلومتراً ثمَّ تداعى. ولكن ذلك لم يمنع مشتريه من المشاركة به في مبارياتٍ أخرى، وهو يُعده للأولمبياد.
مشاهدة فيلم بوديا وحده تملأ القلب بالفزع من هذه الفكرة الوحشية الجهنمية التي تزيِّن لعدد غير محدود من أولياء الأمور (آباء، أرباب عمل، معلمين، وسائل إعلام، سماسرة.....) في العالم والوطن العربي والأردن، وفي غياب تشريعات تحمي الطفولة، أن يوضع الأطفال في موقع الكبار، ويتحمَّلوا مسؤولية الحياة قبل أوانهم. ولن ننسى دول الاحتلال وشانَّة الحروب وذوات المطامع التي تقصف أول ما تقصف النساء والأطفال، وتدفع بهم (الأطفال) إلى أدوارٍ قاتلة ومبكرة في مقاومة العدو والاحتلال (أطفال الانتفاضة الفلسطينية مثلاً).
ولا يتوقف استغلال الأطفال عند تحوير حياتهم وزجِّها في المعركة الكبرى للفوز وكسب العيش (تشغيل الأطفال)، والاستعمال الجنسي (دعارة الأطفال)، وتجارة الأعضاء البشرية فحسبُ. بل يتعدّى هذه العناوينَ الصَّارخة إلى ممارساتٍ لا نرى فيها شائبةً، وتمرُّ في مجتمعاتنا من دون أن يتوقَّف عندها أحد. ومن ذلك قمع الطفولة بتكبير الطفل والطفلة فيُزَجَّانِ في ملامح الكبار وواجبات سنِّ الرشد، ومثال ذلك تحجيبُ الطفلة منذ نطقت (لطالما رأينا في الأسواق من ذوات العامين محجبات!!)، وحرمانها من أشعة الشمس (فيتامين دي) الضرورية لنمو عظامها، ومن الهواء النقيّ (الأوكسجين)، ووضعُ الطفل في مجالس الكبار مقموع الحركة مُصغياً لساعات. ولا أرى في هذه الممارسات ومثيلاتها غير احتلال الراشدين للطفولة، مثل أي احتلالٍ غير رحيم. ومتى كان الاحتلالُ رحيماً؟؟ (الغد )